سبب خروج الحسين و ابن الزبير على الأمويين

بسم الله الرحمن الرحيم

خروج الحسين رضي الله عنه

تمثل معارضة الحسين بن علي ليزيد بن معاوية نقطة تحول خطيرة في تاريخ المسلمين ، و قد جرت هذه الحادثة من التبعات والانقسامات الشيء الكثير ، وكان خطر هذه الحادثة لا يقتصر على تأثيرها المباشر على المجتمع المسلم في ذلك الوقت فقط ، بل يتعداه إلى أبعد من ذلك حتى يومنا هذا ، حيث يمثل نقطة خطيرة لانحراف طائفة ترى محبته و موالاته فقط ، و تكفير الأمة بسببه ، و من ثم تتخذ من هذه الحادثة مادة لتأجيج المشاعر ضد أهل السنة بأجمعهم ، وكأنهم هم السبب الحقيقي لمأساته رضوان الله عليه .

لقد كان موقف الحسين من بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض ، و قد شاركه في هذه المعارضة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، غير أنهما لم يبديا أسباباً واضحة لممانعتهما بالبيعة – أقصد بذلك : أنهما لم يتهما يزيد في سلوكه ، و لم يأتيا بأمور واضحة تطعن في تأهله للخلافة ، فيبقى السبب الرئيسي ، و هو إرادة الشورى - ، في حين أن ابن عمر و ضح السبب ، و هو أن هذه الطريقة في أخذ البيعة لا تشابه طريقة بيعة الخلفاء الراشدين ، تاريخ أبي زرعة (1/229) و تاريخ خليفة ( ص 214) بإسناد صحيح . و بالفعل أرسل ابن عمر البيعة مباشرة عندما توفي معاوية رضي الله عنه .

و إن تلك الممانعة الشديدة من قبل الحسين بن علي ، هي أنه أحق بالخلافة من غيره ، و كان يرى أن الخلافة صائرة إليه بعد وفاة معاوية ، و كان مؤدى هذا الشعور تلك المكانة التي يتبوأها الحسين في قلوب المسلمين ، ثم اطمئنانه بالقاعدة العريضة من المؤيدين له في الكوفة وغيرها ، فليس من الغريب أن يقف الحسين في وجه بيعة يزيد و يرفضها رفضاً شديداً و بكل قوة ، و لهذا قال الذهبي في السير (3/291) : و لما بايع معاوية ليزيد تألم الحسين .

بعد أن توفي معاوية رضي الله عنه و بويع ليزيد بالخلافة في الشام ، كتب يزيد إلى والي المدينة – الوليد بن عتبة بن أبي سفيان – أن يدعو الناس للبيعة و أن يبدأ بوجوه قريش . انظر : ابن سعد في الطبقات (5/359) بإسناد جمعي ، و تاريخ خليفة ( ص 232) بإسناد فيه محمد بن الزبير الحنظلي ، و هو متروك .

استشار الوليد بن عتبة مروان بن الحكم فأشار عليه بأن يبعث في طلب الحسين وابن الزبير للبيعة ، فيروي خليفة في تاريخه ( ص 233) : أن ابن الزبير حضر عند الوليد و رفض البيعة واعتذر بأن وضعه الاجتماعي يحتم عليه مبايعته علانية أما الناس ، و طلب منه أن يكون ذلك من الغد في المسجد إن شاء الله . واستدعى الحسين بعد ذلك و يبدوا أن الوليد تحاشى أن يناقش معه موضوع البيعة ليزيد ، فغادر الحسين مجلس الوليد من ساعته ، فلما جنّ الليل خرج ابن الزبير والحسين متجهين إلى مكة كل منها على حدة . ورواية خليفة هي الأقرب – في نظري – إلى الحقيقة ، فإضافة إلى تسلسل الحدث فيها ، فإن الرواية نفسها عن جويرية بن أسماء و هو مدني .

في طريق مكة التقى الحسين وابن الزبير بابن عمر و بعد الله بن عياش ، و هما منصرفين من العمرة قادمين إلى المدينة ، فقال لهما ابن عمر : أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس و تنظران فإن اجتمع الناس عليه لم تشذا ، و إن افترق عليه كان الذي تريدان . ابن سعد في الطبقات (5/360) والمزي في تهذيب الكمال (6/416) من طريق ابن سعد ، و الطبري (5/343) لكنه ذكر أن الذي لقيهما ابن عمر وابن عباس ، و لعله تحريف في اسم عياش ، والصحيح أن ابن عباس كان موجوداً بمكة حينذاك .

فلما علمت شيعة الكوفة بموت معاوية و خروج الحسين إلى مكة و رفض البيعة ليزيد ، فاجتمع أمرهم على نصرته ، ثم كتبوا إليه ، و بعد توافد الكتب على الحسين و هو بمكة و جميعها تؤكد الرغبة في حضوره و مبايعته ، نستطيع أن نقول : إن الحسين لم يفكر بالخروج إلى الكوفة إلا عندما جاءته الرسل من الكوفيين يدعونه بالخروج إليهم ، و أنهم يدعونه مرحبين به طائعين ، فأراد الحسين أن يتأكد من صحة هذه الأقوال ، فأرسل مسلم بن عقيل بن أبي طالب – ابن عمه – لينظر في أمر أهل الكوفة و يقف على الحقائق بنفسه . انظر : تاريخ الطبري (5/354 ) و البلاذري في أنساب الأشارف (3/159) .

ذهب مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، و وقف على ما يحدث هناك و كتب إلى الحسين يدعوه إلى الخروج إلى الكوفة وأن الأمر مهيأ لقدومه .

و قد تتابعت النصائح من الصحابة و التابعين تنهى الحسين عن الخروج إلى الكوفة ، و من الذين نصحوا : محمد بن الحنفية – أخوه - ، و ابن عباس ، وابن عمر وابن الزبير و أبو سعيد الخدري و جابر بن عبد الله ، و غيرهم الكثير ، ينهونه عن القدوم إلى الكوفة ، غير أن هذه النصائح الغالية الثمينة لم تؤثر في موقف الحسين حيال خروجه إلى الكوفة ، بل عقد العزم على الخروج ، فأرسل إلى المدينة و قدم عليه من خفّ من بني عبد المطلب ، و هم تسعة عشر رجلاً و نساء و صبياناً من اخوته و بناته و نسائه ، فتبعهم محمد بن الحنفية وأدرك الحسين قبل الخروج من مكة فحاول مرة أخرى أن يثني الحسين عن خروجه لكنه لم يستطع . انظر : ابن سعد في الطبقات (5/266-267) .

و جاء ابن عباس و نصحه فأبى إلا الخروج إلى الكوفة ، فقال له ابن عباس : لولا أن يزري بي و بك ، لنشبت يدي في رأسك ، فقال – أي الحسين - : لإن أقتل بمكان كذا و كذا أحب إلي من أستحل حرمتها ، يعني الكعبة ، فقال ابن عباس – فيما بعد : و كان ذلك الذي سلى نفسي عنه . و كان ابن عباس من أشد الناس تعظيماً للحرم . انظر: مصنف ابن أبي شيبة (5/96-97) بإسناد صحيح ، و الطبراني في المعجم الكبير (9/193) و قال الهيثمي في المجمع (9/192) و رجاله رجال الصحيح ، و الذهبي في السير (2/292) و غيرهم الكثير .

و لما علم ابن عمر بخروج الحسين أدركه على بعد ثلاث مراحل من المدينة فقال للحسين أين وجهتك ؟ فقال : أريد العراق ، ثم أخرج إليه كتب القوم ، ثم قال : هذه بيعتهم و كتبهم ، فناشده الله أن يرجع ، فأبى الحسين ، ثم قال ابن عمر : أحدثك بحديث ما حدثت به أحداً قبلك : إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يخيره بين الدنيا والآخرة ، فاختار الآخرة ، و إنكم بضعة منه ،فوالله لا يليها أحد من أهل بيته ، ما صرفها الله عنكم إلا لما هو خير لكم ، فارجع أنت تعرف غدر أهل العراق و ما كان يلقى أبوك منهم ، فأبى ، فاعتنقه و قال : استودعتك من قتيل . ابن سعد في الطبقات (5/360) و ابن حبان (9/58) وكشف الأستار (3/232-233) بسند رجاله ثقات . و عند غيرهم .

لكن هذه النصائح والتحذيرات لم تثن الحسين عن إرادته و عزمه على الخروج نحو الكوفة .

و هنا يبرز سؤال ملح : و هو كيف يجمع عدد من الصحابة و كبراؤهم و كبار التابعين و أصحاب العقل منهم ، و من له قرابة بالحسين على رأي واحد و هو الخوف على الحسين من الخروج وأن النتيجة معروفة سلفاً ، و في المقابل كيف يصر الحسين على رأيه وترك نصائح الصحابة وكبار التابعين ؟

و الإجابة على هذا السؤال تكمن في سببين اثنين :-

الأول : وهو إرادة الله جل وعلا و أن ما قدره سيكون و إن أجمع الناس كلهم على رده فسينفذه الله لا راد لحكمه ولا لقضائه سبحانه وتعالى .

الثاني : و هو السبب الواقعي الذي تسبب في وجود الأمر الأول ، و هو أن الحسين رضي الله عنه أدرك أن يزيد بن معاوية لن يرضى بأن تكون له حرية التصرف والبقاء بدون حمله بالقوة على البيعة ، و لن يسمح يزيد بأكثر مما حدث ، فرسل تأتي و رسل تذهب و دعوة عريضة له بالكوفة ، كل هذا يجعل جعل الحسين بأن موقفه في مكة يزداد حرجاً ، و هو يمانع البيعة للخليفة دون أن يكون هناك ما يبرر موقفه بشكل واضح ، ثم إن خشية الحسين من وقوع أي مجابهة بينه و بين الأمويين في مكة هو الذي جعله يفكر بالخروج من مكة سريعاً ، و هو ما أكده لابن عباس ، ولعل الأمر الذي جعله يسارع في الخروج إلى الكوفة هي الصورة المشرقة والمشجعة التي نقلها له ابن عمه لحال الكوفة و أنها كلها مبايعة له .

و في نظري أن مسلم بن عقيل و الحسين رضي الله عنهما لم يكونا يحيطون بكثير من أمور السياسة ، فمسلم بن عقيل وثق في تلك الآلاف المبايعة للحسين و ظن أن هؤلاء سيكونون مخلصين أوفياء و لم يجعل في حسبانه أن العاطفة هي المسير لتلك الأعداد ، فكان على مسلم بن عقيل أن يستثمر الوضع لصالحه وأن يعايش الواقع الفعلي حتى يخرج بتصور صحيح ، وأما أن يرسل للحسين منذ الوهلة الأولى و يوهمه بأن الوضع يسير لصالحه ، فهذا خطأ كبير وقع فيه مسلم بن عقيل ، ثم إن الحسين رضي الله عنه وثق بكلام مسلم بن عقيل و صدق أن الكوفة ستقف معه بمجرد مجيئه إليها ، و نسي أن الكوفة هي التي عانى أبوه منها أشد المعاناة من التخاذل والتقاعس و عدم الامتثال لأوامره ثم كانت النهاية باغتياله رضي الله عنه ، ثم إن أخاه الحسن واجه الغدر والمكيدة من أهل الكوفة ، وكان يحذره منهم حتى على فراش الموت ، ثم إن الذين نصحوه يحملون حساً سياسياً واضحاً فالكل حذره و بين خطأه الذي سيقدم عليه ، و من المستحيل أن يكون كل الناصحون على خطأ و أن فرداً واحداً هو على الحق و بالأخص إذا عرفنا من هم الناصحون ، لكنه قدر الله ، و حدث ما حدث و قتل الحسين في معركة كربلاء ، لكن لنقف مع تقويم لهذه المعارضة من قبل الحسين رضي الله عنه .

كانت معارضة الحسين ليزيد بن معاوية و خروجه إلى العراق طلباً للخلافة ، ثم مقتله رضي الله عنه بعد ذلك ، قد ولد إشكالات كثيرة ، ليس في الكيفية والنتيجة التي حدثت بمقتله رضي الله عنه ، بل في الحكم الشرعي الذي يمكن أن يحكم به على معارضته ، و ذلك من خلال النصوص النبوية .

وإن عدم التمعن في معارضة الحسين ليزيد و التأمل في دراسة الروايات التاريخية الخاصة بهذه الحادثة ، قد جعلت البعض يجنح إلى اعتبار الحسين خارجاً على الإمام ، وأن ما أصابه كان جزاءاً عادلاً و ذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية تدين الخروج على الولاة .

فقد قال صلى الله عليه وسلم : من أراد أن يفرق بين المسلمين و هم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان . صحيح مسلم (12/241) ، قال السيوطي : أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم . عقد الزبرجد (1/264) . و قال النووي معلقاً على هذا الحديث : الأمر بقتال من خرج على الأمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك و ينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل و كان دمه هدراً .

و في هذا الحديث و غيره من الأحاديث المشابهة له جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على أن الخارج على سلطان المسلمين يكون جزاءه القتل ، و ذلك لأنه جاء ليفرق كلمة المسلمين .

وإن الجمود على هذه الأحاديث جعلت الكرامية – فرقة من الفرق – مثلاً يقولون : إن الحسين رضي الله عنه باغ على يزيد ، فيصدق بحقه من جزاء القتل . نيل الأوطار للشوكاني (7/362) .

وأما البعض فقد ذهبوا إلى تجويز خروج الحسين رضي الله عنه واعتبر عمله هذا مشروعاً ، و جعلوا المستند في ذلك إلى أفضلية الحسين والى عدم التكافؤ مع يزيد . نيل الأوطار (7/362) .

وأما البعض فقد جعل خروج الحسين خروجاً شرعياً بسبب ظهور المنكرات من يزيد . انظر : الدره فيما يجب اعتقاده لابن حزم (ص 376) وابن خلدون في المقدمة (ص271) .

و لكن إذا أتينا لتحليل مخرج الحسين رضي الله عنه ومقتله ، نجد أن الأمر ليس كما ذهب إليه هذان الفريقان ، فالحسين لم يبايع يزيد أصلاً ، وظل معتزلاً في مكة حتى جاءت إليه رسل أهل الكوفة تطلب منه القدوم ، فلما رأى كثرة المبايعين ظن رضي الله عنه أن أهل الكوفة لا يريدون يزيد فخرج إليهم ، وإلى الآن فإن الحسين لم يقم بخطأ شرعي مخالف للنصوص ، و خاصة إذا عرفنا أن جزءً من الأحاديث جاءت مبينة لنوع الخروج .

فعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من نزع يداً من طاعة فلا حجة له يوم القيامة ، و من مات مفارقاً للجماعة فقد مات ميتة جاهلية . مسلم بشرح النووي (12/233-234) . و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما ، والجمعة إلى الجمعة والشهر إلى الشهر يعني رمضان كفارة لما بينهما ، قال : ثم قال بعد ذلك : إلا من ثلاث ، - قال : فعرفت إن ذلك الأمر حدث – إلا من الإشراك بالله ، ونكث الصفقة ، و ترك السنة . قال : أما نكث الصفقة : أن تبايع رجلاً ثم تخالف إليه ، تقاتله بسيفك ، و أما ترك السنة فالخروج من الجماعة . المسند (12/98) بسند صحيح .

و بالرغم من أن الحسين رضي الله عنه حذره كبار الصحابة ونصحوه إلا أنه خالفهم ، و خلافه لهم إنما هو لأمر دنيوي ، فقد عرفوا أنه سيقتل وسيعرض نفسه للخطر ، و ذلك لمعرفتهم بكذب أهل العراق ، والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال ، و لكن ظن أن الناس يطيعونه ، فلما رأى انصرافهم عنه طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر أو إتيان يزيد .منهاج السنة (4/42) .

الذي قصده شيخ الإسلام رحمه الله من مقولته تلك : هي أن الحسين رضي الله عنه عندما رأى أن أهل الكوفة يريدونه و يطلبونه للقدوم إليهم ، فكّر في أن يستغل هذا الشعور في التأثير على يزيد فيرى يزيد أن المسألة قد تفاقمت و قام أهل الكوفة مع الحسين و لربما تقوم معه مناطق أخرى ، فيتراجع عن قرار جعل الحكم وراثياً في الأمويين ، و هذا الذي قصده الحسين و ابن الزبير رضي الله عنهما من خروجهما ، و لم يكن الحسين رضي الله عنه يريد بخروجه إلى الكوفة القتال ، أو المواجهة مع يزيد ، و لم يكن يتوقعه ، حتى أنه عندما وصلته الأخبار بتخاذل أهل الكوفة و مقتل مسلم بن عقيل فكر بالرجوع ، لكن أبناء و إخوة مسلم هم الذي أصروا على القدوم إلى الكوفة و طلب الثأثر ممن قتله .

و لقد تعنت ابن زياد أمام تنازلات الحسين ، و كان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه ، و لكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين و هو أن ينزل على حكمه ، و كان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب ، و حُق للحسين أن يرفض ذلك ؛ لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله ، ثم إن فيه إذلالاً للحسين و إهانته الشيء الكبير ، ثم إن هذا العرض كان يعرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على الكفار المحاربين ، والحسين رضي الله عنه ليس من هذا الصنف ، و لهذا قال شيخ الإسلام في المنهاج (4/550) : و طلبه أن يستأسر لهم ، و هذا لم يكن واجباً عليه .

والحقيقة أن ابن زياد هو الذي خالف الوجهة الشرعية والسياسية حين أقدم على قتل الحسين ، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : .. فإن جاء آخر ينازع فاضربوا عنق الآخر . مسلم (12/233) . فإن هذا الحديث لا يتناول الحسين ، لأنه عرض عليهم الصلح فلم يقبلوا ، ثم كان مجيئه بناء على طلب أهل البلد و ليس ابتداعاً منه ، يقول النووي معلقاً على الحديث : قوله فاضربوا عنق الآخر معناه : فادفعوا الثاني ، فإنه خارج على الإمام فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال فاقتلوه . شرح مسلم (12/234) . و بذلك يكون الظالم هو ابن زياد و جيشه الذين أقدموا على قتل الحسين رضي الله عنه بعد أن رفضوا ما عرض الحسين من الصلح .

ثم أن نصح الصحابة للحسين يجب أن لا يفهم على أنهم يرونه خارجاً على الإمام ، و أن دمه حينئذ يكون هدراً ، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم أدركوا خطورة أهل الكوفة على الحسين وعرفوا أن أهل الكوفة كذابين ، و قد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم .

يقول ابن خلدون في المقدمة (ص 271) : فتبين بذلك غلط الحسين ، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه ، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه ، لأنه منوط بظنه ، و كان ظنه القدرة على ذلك ، وأما الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا بالحجاز و مصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين رضوان الله عليه ، فلم ينكروا عليه ولا أثمّوه ، لأنه مجتهد وهو أسوة للمجتهدين به .

و يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/556) : وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله ، فإنه رضي الله عنه لم يفارق الجماعة ، و لم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى يزيد ، و داخلاً في الجماعة معرضاً عن تفريق الأمة ، و لو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك ، فكيف لا تجب إجابة الحسين . و يقول في موضع آخر (6/340) : ولم يقاتل وهو طالب الولاية ، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث .. بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه ، فقتل مظلوماً .


خروج أهل المدينة:

 

لا يمكن بأي حال من الأحوال تصنيف معارضة أهل المدينة و ابن الزبير على أنها معارضتان مختلفتان ، و ذلك لأن القواسم المشتركة بين المعارضتين تكاد تكون واحدة .

لقد أدى تصلب ابن الزبير و فشل يزيد في إقناعه وتساهله معه كل ذلك أدى إلى ظهور شعور قوي في الحجاز عموماً و في المدينة خصوصاً بأن يزيد ليس في مستوى المسؤولية ، و كان للإشاعة التي انتشرت عن شربه للخمر وما سوى ذلك أثر كبير في تغذية هذا الشعور ، مما دفع أهل المدينة إلى المناداة بسقوطه ، ومن ثم نستطيع القول : إن ثورة أهل المدينة و معارضتهم للحكم الأموي و خلافة يزيد بن معاوية ، ما هي إلا امتداد طبيعي لمعارضة ابن الزبير التي بدأها في مكة .

و لعل من الجدير بالملاحظة عند دراسة معارضة أهل المدينة ، أن طابع المعارضة لم يتسم بهدف واحد ، الأمر الذي يدل على أنه حماس ديني اشأب بروح العاطفة ، دون أن يتخذ نظاماً معيناً يحدد من خلاله أبعاد هذه المعارضة والطرق الكفيلة لنجاحها .

لما قام معاوية رضي الله عنه بأخذ البيعة ليزيد أصابت المفاجأة بعض أبناء الصحابة الطامحين للخلافة ، فقد تأكد لديهم أنهم إذا وافقوا على بيعة يزيد فإن بقاء الخلافة في البيت الأموي أصبح أمراً مسلماً يلزمهم الاعتراف به ، لهذا فقد كان موقف ابن الزبير والحسين بن علي دلالة على صدق ذلك الشعور ، و عندما ورد خبر وفاة معاوية رضي الله عنه إلى المدينة ، وأراد واليها أخذ البيعة ليزيد ، رفض الحسين وابن الزبير رضي الله عنهما و خرجا إلى مكة ، و لم ينقل أن أحداً من أهل المدينة تخلف عن البيعة ليزيد ، إلا أن هذه البيعة لم تغير شعور الكثير من أبناء الصحابة و خاصة أنهم يرون أن الخلافة قد آلت إلى يزيد و ليس هو بأفضل منهم ، و مما زاد من مشاعر المرارة عند الكثير من أبناء الصحابة هو إحساسهم بمدى التجاهل الذي عوملوا به و بالأخص في اختيار الولاة ، حيث أصبح الوالي – في الغالب – يرتبط بعلاقة قرابة مع الخليفة ، و هو الأمر الذي لم يكن مألوفاً في عهد الخفاء الراشدين ، ثم إن قرب فترة يزيد بالخلافة الراشدة ، عمق ذلك الشعور أكثر و جعلت أبناء الصحابة أكثر توقاً لإعادة الشورى و تمكينها بين الناس ، و عندما قتل الحسين رضي الله عنه بتلك الصورة الشنيعة ، و معه أهله ، على يد عبيد الله بن زياد – ابن عم يزيد – أحس الكثير من أبناء الصحابة بحجم الاستبداد والتسلط الذي بدأت تمارسه الدولة ، الأمر الذي جعل الناس في الحجاز يتعاطفون مع ابن الزبير و رفعه شعار الشورى ، في الوقت الذي لم يحاكم يزيد ابن عمه كأحد المسؤولين عن قتل الحسين ، واعتبر الناس هذا التصرف محاباة لابن زياد من قبل يزيد ، لقد كانت هذه عوامل مساعدة جعلت النفوس مهيأة للمعارضة ، حينما وجدت عوامل ظاهرة تغذي ذلك الشعور المتولد من أخطاء السياسة الأموية .

ثم بعد ذلك قام وفد من أهل المدينة بزيارة يزيد بن معاوية ، ولا نعلم سبب هذا التحول المفاجئ عند أهل المدينة ، وإن كنت أظن أنهم أرادوا بهذا الوفد استكشاف حالة يزيد ، والتعرف على صدق تلك الإشاعات من كذبها والتي تتهم يزيد بشرب الخمر و غيرها من المنكرات ، فأوفد عثمان بن محمد والي المدينة عدداً من أشارف أهل المدينة فيهم : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، و عبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي ، و رجل من بني عدي من آل سراقة ، و عثمان بن عطاء بن تويث ، و محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري و عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ، والعباس بن سهل بن سعد الساعدي ، و معقل بن سنان الأشجعي . البداية والنهاية (8/217) .

فقدموا على يزيد و هو بحوارين ، و بعد أيام من وصولهم استقبلهم يزيد و قد كان خلالها مريضاً ، و هذا الذي جعله يتأخر عن مقابلتهم ، ثم تمضي الرواية و تذكر مطالبهم و ما دار بينهم من حوار ، و أن يزيد أمر الوفد بأن يطلبوا حوائجهم ، فلم يسألوا حاجة إلا قضاها ، و كان في هذا الوفد عبدالله بن حنظلة ومعه ثمانية من أبنائه ، فأعطاه يزيد مائة ألف درهم وأعطى لكل واحد من أبنائه عشرة آلاف درهم سوى كسوتهم و حملانهم . تاريخ خليفة ( ص 236) بسند صحيح . والطبري (5/495) بإسناد صحيح . و قد أجاز الوفد جميعهم ، و من العجيب حقاً بعد هذا كله أن الرواية تقول : إنهم رجعوا ذامين له مجمعين على خلعه ، فلما رجعوا إلى المدينة أظهروا شتم يزيد والبراءة منه و خلعه . الطبري (5/480) .

و لقد كان واضحاً من خلال الروايات التي ساقت سبب خروج أهل المدينة على يزيد أن الشيء الحامل على ذلك هو قلة دين يزيد بن معاوية ، و بالتالي فإنه ليس جديراً بقيادة الأمة . انظر : المسعودي مروج الذهب (3/78) والسيوطي في تاريخ الخلفاء (ص 309) .

لكن على الرغم من خلع يزيد و طرد الأمويين من المدينة وحدوث معركة الحرة ، و هذه الحوادث المهمة في الدولة الإسلامية وعلى المجتمع الإسلامي ، إلا أنه لم يثبت لدينا بأسانيد صحيحة الأمور التي لاحظها الوفد على يزيد ، و من ثم كانت هي الدافعة لخلع يزيد وإخراج بني أمية . و هذه الروايات الضعيفة التي تدين يزيد بن معاوية و تذكره بأمور عظيمة ، لا يمكن أن نأخذ بها على الرغم من ضعفها، و ذلك لأن الأمر يتعلق بعدالة خليفة المسلمين ، فإذا كان التحري وعدالة الشهود أساسية في إدانة أي شخص فما بالك بأمير المؤمنين في زمانه ، و لكننا نستطيع أن نقرر حقيقة ثابتة و هي أن الدافع الذي دفع أهل المدينة للخروج على يزيد : هو أخذهم تصور عن يزيد بأنه قليل الدين ، و لكن ما هي حدود قلة الدين ، هل هي معاصي و ذنوب صغيرة ، أم كبائر كبيرة أو كفر صريح ؟ و لكي نصل إلى نتيجة مقنعة يلزمنا مناقشة إحدى الروايات من طريق الواقدي والتي يقول فيها على لسان ابن حنظلة : إنه – أي يزيد – رجل ينكح الأمهات والبنات والأخوات ، و يشرب الخمر و يدع الصلاة .ابن سعد في الطبقات (5/66 ) .

كيف يعقل أن يزيد ينكح الأمهات والبنات والأخوات ؟ ما هو الداعي لكي يقدم على هذا العمل ؟ لقد كان الوثنيون ولا يزالون ممن لا دين لهم والجاهليون العرب وأكثر الناس همجية في عالم اليوم يتنزهون و يمقتون مثل هذا العمل و هم أهل جاهلية وكفر ، ثم ألم يكن يزيد سلطان المسلمين و سيد زمانه ، أفلا يستطيع أن يتزوج أجمل النساء ؟ لماذا يترك ما أحل الله له و يعمد إلى الزواج من أمه وأخته وبناته على حد زعم الرواية ؟؟ ثم إن هذا العمل لا يمكن أن يخفى على أهل الشام والذين يوجد بينهم الصحابة والتابعون والعلماء والفقهاء ، فلماذا لم ينقل إلينا شاهد واحد من أهل الشام على أن يزيد ارتكب مثل هذه القبائح ؟؟

و مما يؤكد أن اتهام يزيد بشرب الخمر لا دليل عليه و ليس صحيحاً ، ولم يكن هو الدافع الوحيد الذي سيطر على أهل المدينة عند خلعهم ليزيد بن معاوية ، أنهم لم يشيروا إلى هذه التهمة خلال الحوادث الآتية :-

1 - لما جاء ابن عمر إلى عبد الله بن مطيع حينما نزعوا بيعة يزيد قال ابن مطيع : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة ، فقال : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، و من مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية . صحيح مسلم (برقم 1851) . ولم يذكر ابن مطيع والذين معه شيئاً عن شرب الخمر أو ما شابه ذلك ، وإلا لبينوا الحق في سبب خروجهم .

و روى البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه و ولده فقال : إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ، و إنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله و رسوله ، و إني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله و رسوله ثم ينصب له القتال ، و إني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني و بينه . البخاري مع الفتح (13/74) .

2 - أقام علي بن الحسين – زين العابدين – طويلاً عند يزيد ، و ذلك بعد مقتل والده وأقاربه في كربلاء ، وكان يتناول معه الطعام ، ومع ذلك لم نجد رواية واحدة عن علي بن الحسين يتهم فيها يزيد بشرب الخمر ، كما وأن علي بن الحسين لم يخرج مع أهل المدينة على يزيد ، و هو الذي يعتبر أكثر الناس تأثراً بسياسة الدولة ، ثم لا ننسى أنه رجل موتور بقتل والده وأقاربه ، فلوا أنه عرف أن يزيد يشرب الخمر و يدع الصلاة لكان أول المسارعين للخروج على يزيد .

3 - من الدلائل على أن تهمة شرب الخمر التي اتهم فيها يزيد هي من زيادات و إضافات أناس ليس لهم أدنى علاقة ، أو اطلاع على حالة يزيد ما ذكر عن محمد بن الحنفية. إذ يروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو و أصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر و يترك الصلاة و يتعدى حكم الكتاب ، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون ، قد حضرته و أقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة ، قالوا : ذلك كان منه تصنعاً لك ، قال : و ما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع ؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه ، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ، قالوا : إنه عندنا لحق و إن لم نكن رأيناه ، فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة ، و لست من أمركم في شيء ، فقالوا : لعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك ، فنحن نوليك أمرنا قال : ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً ، قالوا : فقد قاتلت مع أبيك ، قال : جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه ، فقالوا : فمر ابنيك القاسم و أبا القاسم بالقتال معنا ، قال : لو أمرتهما لقاتلت ، قالوا : فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال ، قال : سبحان الله آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه ، إذاً ما نصحت لله في عباده ، قالوا : إذاً نكرهك قال : إذاً آمر الناس بتقوى الله و ألاّ يرضوا المخلوق بسخط الخالق ، و خرج إلى مكة . البداية و النهاية (8/233) و تاريخ الإسلام – حوادث سنة 61-80هـ – (ص274) بسند حسن.
ولا ننسى أن محمد بن الحنفية أخو الحسين بن علي ، و قد فجع بقتل إخوته وأقاربه في كربلاء ، و مع ذلك فقد دافع عن يزيد ولم يخلع بيعته ليزيد و لم يشارك في معركة الحرة ، ولا أظن أنه سوف يقف إلى جانب يزيد و يدافع عنه إذا كان على علم بأن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة و لكان أول الخارجين عليه بسبب ما أصاب أقاربه بسببه .


4 - حينما بعث يزيد بن معاوية النعمان بن بشير رضي الله عنه وسيطاً لأهل المدينة ليثنيهم عن عزمهم في الخروج على يزيد ، لم تشر المحاورة التي دارت بين النعمان بن بشير و بين أهل المدينة إلى اتهام يزيد بشرب الخمر . الطبري (5/481) .

لقد كان الوفد الذي ذهب إلى يزيد رأى أن يزيد قد أخذ البيعة لولده معاوية من بعده و ترك حياة الشورى التي كانت سائدة إبان فترة الخلفاء الراشدين ، لذا قرروا يجعلوا حداً لولاية العهد ، فأصبح لديهم حنيناً جارفاً و توقاً كبيراً للرجوع بالأمة إلى حياة الشورى ، و لقد كان هذا الرأي مشتركاً بين أعضاء الوفد ، فلما رجعوا إلى المدينة خلعوا يزيداً و ولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة . البداية والنهاية (8/235) .

وخلاصة القول أن المطالب التي عرضها أهل المدينة في هذه المعارضة هي الدعوة إلى مبدأ الشورى و هو الشعار الذي نادى به ابن الزبير في مكة ، و إن رفع شعار الشورى في المدينة ليس بتأثير ابن الزبير وحده ، بل لأن المنطلقات لدى الجانبين شرعية ، فالمصدر الذي صدروا عنه جميعاً هو الكتاب والسنة .

ومن الأدلة القوية على عمق الرابطة بين المعارضتين ، أن معارضة أهل المدينة ما هي إلى تعبيراً قوياً لميل أهل المدينة مع ابن الزبير ، و دليل ذلك ما ذكره نافع مولى ابن عمر والمعاصر لتلك الفترة والشاهد عليها حين قال : ( لما انتزى أهل المدينة مع ابن الزبير وخلعوا يزيد بن معاوية ) المسند (8/66) بإسناد صحيح .

و ابن عمر رضي الله عنه كان يتمنى قتال الفئة الباغية ، و حين سئل عن الفئة الباغية قال : ابن الزبير بغى على بني أمية فأخرجهم من ديارهم و نكث عهدهم. الذهبي في تاريخ الإسلام ( حوادث سنة 61-80هـ ) ( ص 465) . و كان ابن عمر يحمل ابن الزبير مسؤولية إخراج الأمويين من المدينة ، و الثابت تاريخياً أن ابن الزبير كان في مكة وقت إخراج أهل المدينة للأمويين ، ومما يوضح تلك العلاقة التي تربط بين معارضة الأمويين ومعارضة ابن الزبير أن الجيش الذي أرسله يزيد إلى أهل المدينة ومن ثم إلى ابن الزبير لم يسمح أهل المدينة لذلك الجيش بالاجتياز لابن الزبير ، ومنعوه حتى قاتلوه ، ثم إن الذين فروا في الحرة و نجوا منها التجؤوا لابن الزبير ، ثم إن المنظم لجيش أهل المدينة و هو عبدالله بن مطيع كان أحد أعوان ابن الزبير ومن المقربين له ، خاصة في حصار مكة الثاني .

و لقد قال ابن حجر في ترجمة مروان بن الحكم : ولم يزل بالمدينة حتى أخرجهم ابن الزبير منها وكان ذلك من أسباب وقعة الحرة . الإصابة (6/258) . و لقد حمل البلاذري في أنساب الأشراف (4/327) وابن قتيبة في المعارف (ص 351) عبد الله بن الزبير المسؤولية عن إخراج بني أمية من المدينة . ولاشك أن أهل المدينة قد اساءوا إلى الأمويين بإخراجهم من المدينة دون سواهم من الناس ، ثم بخلع الخليفة يزيد بن معاوية ، والحقيقة أن محاصرة الأمويين من قبل أهل المدينة ذكّرت أهل الشام بمحاصرة الثوار للخليفة عثمان رضي الله عنه في المدينة ، فلما انهزم أهل المدينة والصبيان قال ابن عمر : بعثمان و رب الكعبة . المنتظم لابن الجوزي (6/16) .

و لقد ذكرت الروايات أن مسلم بن عقبة إنما عمل كل ما عمل بأهل المدينة عن تدين واعتقاد و ظن بنفسه أنه على الحق وأنه يجب مقاتله من خلع يد الطاعة حتى يرجع إلى الجماعة . ابن سعد في الطبقات ، الطبقة الخامسة ( ص 474) و البلاذري (4/331) والطبري (5/497) بسند حسن .

فحينما نأتي إلى محاولة تحديد الطرف الذي يتحمل المسؤولية عن معركة الحرة ، فإننا سنجد أن كلا الطرفين قد شارك بوقوع تلك المأساة ، فمن الصعب اتهام يزيد و تبرئة المدنيين من المسؤولية ، فأهل المدينة حينما أقدموا على خلع يزيد وإخراج بني أمية من المدينة عارضهم في ذلك كبار الصحابة والتابعين ، وأهل الفضل ، فابن عمر رضي الله عنه كان واضحاً حيال أبنائه وحشمه حيث جمعهم و حذرهم من نكث بيعة يزيد . أما أهل بيت النبوة فقد لزموا الطاعة و لم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد . ابن سعد (5/215) .

أخرج البخاري عن عباد بن تميم ، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال : لما كان زمن الحرة أتاه أت فقال له : إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت ، فقال : لا أبايع على هذا أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح البخاري مع الفتح (6/136) .

و أخرج مسلم عن نافع قال : حين كان من أمر خلع يزيد ما كان ، جاء ابن عمر و دخل على ابن مطيع ، فقال ابن مطيع : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ، قال صلى الله عليه وسلم : من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية . صحيح مسلم برقم (4770) .

و هذه زينب بنت أبي سلمة ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترى في قتل أحد ولديها بعد ما قاتل أهل الشام على أنه يُخشى عليه من سوء الخاتمة ، فهي بذلك لا ترى في خروج أهل المدينة وقتالهم أي صفة شرعية . انظر : تاريخ خليفة (ص 236) بسند صحيح والبيهقي (6/474) بإسناد صحيح . و لقد استدللنا بكلام زينب رضي الله عنها ، على خطأ أهل المدينة في خلعهم ليد الطاعة و البيعة ليزيد ، لأنها من أفقه نساء المدينة في عصرها . الإصابة (7/676) .

كذلك لم يشترك في القتال والمعارضة ضد أهل الشام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه و سيعد بن المسيب ، حتى أن العصامي قال : و لم يوافق أهل المدينة على هذا الخلع – أي خلع يزيد – أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . سمط النجوم العوالي (3/91) .


بطلان اسطورة استباحة يزيد للمدينة

أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو داود و ابن ماجة عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنت يا أبا ذر و موتاً يصيب الناس حتى يقوم البيت بالوصيف - يعني القبر - قلت : ما خار الله لي و رسوله ، أو قال : الله و رسوله أعلم ، قال : تصبر ، قال : كيف أنت و جوعاً يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ؟ قال : الله أعلم ، أو : ما خار الله لي و رسوله ، قال : عليك بالعفة . ثم قال : كيف أنت و قتلاً يصيب الناس حتى تُعْرَقَ حجارة الزيت بالدم ؟ قلت : ما خار الله لي و رسوله ، قال : الحق بمن أنت منه . قال : قلت يا رسول الله أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك ؟ قال : شاركت القوم إذاً ، و لكن ادخل بيتك . قلت : يا رسول الله ، فإن دُخل بيتي ؟ قال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق رداءك على وجهك ، فيبوء بإثمه و إثمك ، فيكون من أصحاب النار . صحيح سنن ابن ماجة (2/355) و أبو داود (4/458-459) و سنن ابن ماجة (2/1308) .

أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند إلى جويرية بن أسماء ، قال : سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له : إن لك من أهل المدينة يوماً فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته . فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة و جماعة فأكرمهم و أجازهم ، فرجع فحرض الناس على يزيد و عابه و دعاهم إلى خلع يزيد ، فأجابوه فبلغ يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة ، فهابهم أهل الشام و كرهوا قتالهم ، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير ، و ذلك أن بني حارثة أدخلوا قوماً من الشاميين من جانب الخندق ، فترك أهل المدينة القتال و دخلوا المدينة خوفاً على أهلهم ، فكانت الهزيمة و قتل من قتل ، و بايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم و أموالهم و أهلهم بما شاء . تاريخ دمشق (58/104-105) .

و أخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال : جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة{و لو دُخِلَت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها }[الأحزاب/14] يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة في وقعة الحرة . قال يعقوب : و كانت وقعة الحرة في ذي القعدة سنة ثلاث وستين . المعرفة و التاريخ (3/426) .

روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال : وقعت الفتنة الأولى فلم تبقي من أصحاب بدر أحد ، ثم وقعت الفتنة الثانية فلم تبقي من أصحاب الحديبية أحد ، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع إلا و للناس طباخ - خير و نفع- قال الحافظ في الفتح : قوله وقعت الفتنة الأولى يعني : مقتل عثمان فلم يبقى من أصحاب بدر أحد ، أي أنهم ماتوا منذ قامت الفتنة بمقتل عثمان رضي الله عنه إلى أن قامت الفتنة الأخرى بوقعة الحرة ببضع سنين ، و كان آخر من مات من البدريين سعد بن أبي وقاص ، حيث مات قبل الحرة ببضع سنين (ت 55هـ) ، أما فتنة الحرة و هي الفتنة الثانية ، فكانت في آخر زمن يزيد بن معاوية ، و الثالثة قال الحافظ : ذكر ابن التين أن مالكاً روى عن يحي بن سعيد الأنصاري قال : فلم تترك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم قتل عثمان و يوم الحرة و نسيت الثالثة . قال ابن عبد الحكم : يوم خروج أبي حمزة الخارجي قلت : كان ذلك في خلافة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم سنة ثلاثين و مائة . فتح الباري (7/377-378) و شرح السنة للبغوي (14/395-396) ، و الحديث في البخاري (7/375) .

أخرج البخاري عن عبد الله بن الفضل أنه سمع أنس بن مالك يقول : حزنت على من أصيب بالحرة ، فكتب إلي زيد بن أرقم - و بلغه شدة حزني - يذكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم اغفر للأنصار و لأبناء الأنصار . و شك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار ، فسأل أنساً بعض من كان عنده فقال : هو يقول الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الذي أوفى الله له بأذنه . البخاري مع الفتح (8/518) ، قوله : و شك ابن الفضل ، رواه النضر بن أنس عن زيد بن أرقم مرفوعاً ، اللهم اغفر للأنصار و لأبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار . أخرجه مسلم من طريق قتادة عنه من غير شك . برقم (6363) .

و للترمذي من رواية علي بن زيد عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم ، أنه كتب إلى أنس بن مالك يعزيه فيمن أصيب من أهله و بني عمه يوم الحرة ، فكتب إليه : إني أبشرك ببشرى من الله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم اغفر للأنصار و لذراري الأنصار و لذراري ذراريهم . سنن الترمذي (5/713) .

و لما وصل خبر وقعة الحرة إلى يزيد قام بإرسال الطعام و أفاض عليهم في أعطياته . البداية و النهاية (8/233-234) . و هذا بخلاف ما نسب إليه من أنه لما سمع بما حدث تشمت بهم و قال :

ليت أشياخي ببدر شهدوا جَزَع الخزرج من وقع الأسل .

و زادت الروايات الشيعية في تشويه الصورة فنسبت الأبيات التالية إليه :

لعبت هاشمٌ بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل .

و هذا الشعر فيه كفر صريح لا يصدر عن يزيد ، و مصادره شيعية و متأخرة و نفى عن يزيد هذه الصورة السلبية ابن تيمية و ابن كثير و غيرهم . سؤال في يزيد (ص16) و البداية و النهاية (8/224) .

و الذي أريد أن أناقشه في هذه الوقعة هو إباحة المدينة للجيش الشامي ثلاثة أيام يفعل فيها ما يشاء بطلب من يزيد بن معاوية ، إن قصة إباحة المدينة لم تجد من المؤرخين المحدثين من قام بدراستها الدراسة العلمية المجردة و المستوفية لجميع مصادر الحادثة و لجميع جوانب الموضوع ، و إن أجمعوا على إثبات وقوع حادثة الحرة ، إلا أنهم فشلوا في تقديم المبررات التاريخية المقنعة التي قادتهم إلى إصدار هذا الحكم ، و لذلك لا يزال الشك قائماً في إثبات وقوع حادثة الاستباحة . و أول من ناقش هذه القضية هو المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن (1918م) من دراسة للروايات الأولية التي تحدثت عن دخول جيش الشام للمدينة ، بعدم إمكانية وقوع الاستباحة ، وشرح فلهاوزن عن كيفية توصله لهذا الرأي ، فبين أن أول رواية وردت بهذا الشأن كانت على لسان أبي مخنف ، ثم يقارن بين هذه الرواية و بين روايات أخرى لرواة ثقات مثل : عوانة بن الحكم (ت147هـ) و وهب بن جرير (ت206هـ) . اللذين تحدثا عن وقعة الحرة ، لكنه لم يرد في رواياتهما ما يشير إلى الاستباحة . أنظر كتاب تاريخ الدولة العربية لفلهاوزن ، ترجمة محمد أبو ريدة ، (ص154) .

و بالرغم من أن فلهاوزن هذا قد نشر آراءه تلك في سنة (1902م) في كتابه تاريخ الدولة العربية - باللغة الألمانية - أولاً ثم ترجم الكتاب إلى العربية في سنة (1958م) ، إلا أن الدكتور نبيه عاقل تبعه بعد ذلك بسبعين سنة فنشر كتاباً بعنوان ( تاريخ خلافة بني أمية ، أو دراسات في تاريخ العصر الأموي ) ادعى فيه أنه توصل من خلال دراسته للروايات التاريخية عن الحادثة إلى شكه في حدوث الاستباحة . أنظر : (ص64-65) من كتابه المذكور .

و ما ذكرته عن نبيه عاقل ، ينطبق على استنتاجات الدكتور حمد العرينان في مقالته - إباحة المدينة و حريق الكعبة في عهد يزيد بن معاوية بين المصادر القديمة والحديثة - و التي نشرت في مجلة كلية الآداب بجامعة الملك سعود عدد (5) لسنة 1398هـ ، و من الجدير بالذكر أن هذه المقالة قد أعيد نشرها و كتبت بنفس العنوان في دار مكتبة ابن تيمية بالكويت سنة 1403هـ ، و كان الأجدر أن يقوم المؤلف بتصحيح ما ادعاه لنفسه من نتائج . أنظر : كتاب يزيد بن معاوية – حياته و عصره – للدكتور عمر سليمان العقيلي ، ( ص68-69) مع هامش رقم (94) و (103) ، و كتاب صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية فريال بنت عبد الله (ص77-83) حيث ناقشت الموضوع بأسلوب علمي و ظهرت بنتيجة واحدة وهي عدم ثبوت صحة واقعة الاستباحة للمدينة .

و قد وردت الحادثة في عدد من المصادر الأساسية و الكثير من الكتب الحديثة على هذا النحو : في وقعة الحرة و بعد هزيمة ثوار المدينة قام قائد جيش الدولة مسلم بن عقبة بتنفيذ وصية يزيد بإباحة المدينة لجنده ثلاثة أيام بلياليها يعيثون بها ، يقتلون الرجال و يأخذون المال و المتاع و بالغ بعضهم إلى حد القول : و سبوا الذرية و انتهكوا الأعراض حتى قيل إن الرجل إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها و يقول لعلها افتضت في الوقعة .

فهذه الصورة العامة للحادثة و إن اختلفت بعض المصادر و الكتب الحديثة في تفاصيلها . و لننظر إلى سند هذه الروايات في المصادر الأساسية مثل الطبري ، فنجد رواية وقعة الحرة و إباحة المدينة من رواية أبي مخنف ؛ - وما أدراك ما أبي مخنف – تقول : .. وصل ذلك الجيش من عند يزيد وعليهم مسلم بن عقبة ، و قال له – أي يزيد – إن حدث بك حادث فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني ، و قال له أدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك و إلا فقاتلهم فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً و ما بها من مال و سلاح أو طعام فهو للجند ، ثم إن مسلم أباح المدينة ثلاثاً يقتلون الناس و يأخذون المال و أفزع ذلك من بها من الصحابة . الطبري (5/491) .

هذا ما رواه أبو مخنف في تاريخ الطبري عن هذا الموضوع ، و هذه الرواية يبدو أنها المصدر الوحيد لكل من أخذ بحقيقة إباحة المدينة .

إذاً فعلى الباحث ألا يتسرع في الأخذ برواية هذا الكذاب ، خاصة إذا كانت تتعرض لأحداث وقعت في عهد الدولة الأموية و عهد يزيد بالذات ، و هو المكروه من قبل عامة الشيعة فما بالك إذا كان هو الراوي الوحيد للحادثة .

و هناك رواية أخرى عند الطبري عن وهب بن جرير حيث أشار فيها إلى إكرام وفادة يزيد لوفد أهل المدينة عند تواجدهم في دمشق ، كما أنه لم يتطرق بالذكر لتوجيه يزيد لقائده مسلم بإباحة المدينة ثلاثة أيام ، و إنما قال : فانهزم الناس فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل من الناس ، فدخلوا المدينة و هزم الناس ، فدخل مسلم بن عقبة المدينة فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم و أموالهم ما شاء .

و هناك رواية ثالثة ذكرها الطبري تختلف عن رواية أبي مخنف و هي لعوانة بن الحكم ، و تؤكد أن مسلم بن عقبة دعا الناس بقباء إلى البيعة - أي بيعة يزيد - ففعلوا و قتل مسلم المعارضين و المشاغبين منهم فقط . الطبري ( 5/495) .

إذاً رواية وهب بن جرير و عوانة بن الحكم لم تذكر شيئاً عن أمر يزيد لسلم بإباحتها ثلاثاً ، إذاً أمر إباحة المدينة ثلاثة أيام قصة مشكوك في وقوعها ، و لم يرد شيء على الإطلاق في هذا الصدد عن سبي الذراري و هتك الأعراض .

أما المصدر الثاني فهو الكامل في التاريخ لابن الأثير ، و قد ذكر ابن الأثير في مقدمة كتابه فيما يتعلق بتاريخ بني أمية على أنه أخذ ما فيه من روايات من تاريخ الطبري ، إذاً فمصدر ابن الأثير هو الطبري و لم يذكر سواه في المقدمة ، و بين أنه اختار أتم روايات الطبري و هذا هو السبب في اختياره لرواية أبي مخنف ، ولا يعني هذا أنه نقل هذه الروايات باعتقاده لصحتها ، و إنما نقلها لأنها روايات تامة ، كما نص على ذلك بنفسه . الكامل لابن الأثير (1/32) . فهذا المصدر لا يحل بديلاً عن تاريخ الطبري .

و هناك مصادر أخرى مثل تاريخ اليعقوبي و مروج الذهب ، و هذان الأخيران لا يؤخذ منهما لميولهما الشيعية و لتفضيلهما للروايات الشيعية في تاريخهما ، أما بقية المصادر التي تعرضت لهذه الحادثة و اعتمد عليها بعض المؤرخين المحدثين ، منها كتاب الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة ، و الغريب المؤسف أننا نجد من المؤرخين المحدثين من يعتمد على هذا الكتاب على اعتبار مؤلفه ابن قتيبة فعلاً ، مع علمهم حتماً بعدم صحة هذه النسبة .

و قد أخذ المؤرخين المعاصرين و خاصة المسلمين منهم هذه الروايات الضعيفة و زجوّها في مؤلفاتهم على أنها حقيقة لا مجال للشك فيها .

و لّما كانت هذه الروايات ضعيفة من جهة ، و مضطربة من جهة ثانية ، و ما خيم على رواتها من هناتٍ و ترك من قبل العلماء في جميع أحوال الرواة ، من جهة ثالثة ، و لِما تعرض له تاريخ يزيد بعامته من التزيف و الكذب عليه من قبل السبئية ، و عامة الروافض ، و اليهود ، و من حذا حذوهم من جهلة المسلمين ، عن طريق النقل أو الإشاعة و التسليم بذلك دون تحقيق ، من جهة رابعة .

أقول : إن حادثة إباحة المدينة و قتل الصحابة فيها بتلك الصورة لم يكن و لم يحدث ، للأدلة التي أوردت و لمناقشة الروايات في ذلك .

وقد أسفرت هذه الوقعة عن فقدان كثير من الأشياء المادية والعلمية و حرقها ، و لعل من أبرزها ما كان يملكه عروة بن الزبير من كتب ، كما ذكر ذلك ابن حجر في التهذيب (7/180) . هذا و قد ثبت في البخاري عن جابر قال : لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن القيراط يقارب جراب جابر بن عبد الله . و قد زاد مسلم في آخر هذا الحديث من وجه آخر : فأخذه أهل الشام يوم الحرة . الحديث رواه البخاري في قصة شراء رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل جابر بن عبد الله . البخاري مع الفتح (5/370-371) ، صحيح مسلم برقم (4077) . و لأحمد من طريق وهب بن كيسان : فوالله ما زال ينمي و يزيد عندنا و نرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب للناس يوم الحرة . المسند (3/376) ، و أورده الحافظ في الفتح (5/373) .

و هذا الحديث و إن كان يدل على أن أهل الشام ، قد أخذوا بعض الأشياء التي تخص أهل المدينة ، لكن ليست بالصورة التي صورتها الروايات الضعيفة من الاستباحة و القتل و هتك الأعراض و غيرها من الأمور المنكرة ، و لذا فإني أشك كل الشك في رواية إباحة المدينة على يد الجيش الأموي .

و لو فرضنا جزافاً بوقوع حادثة الاستباحة ، فإذا نظرنا إلى معنى الاستباحة و كما يتضح مفهومها من رواية أبي مخنف الكذاب هي النهب و القتل ، و من المبالغات في هذه الروايات ما نقله الواقدي بأن عدد القتلى بلغ سبعمائة رجل من قريش و الأنصار و مهاجرة العرب و وجوه الناس ، و عشرة آلاف من سائر القوم . و قد أنكر شيخ الإسلام ذلك ، انظر : منهاج السنة (4/575-576) . و انظر نقد مصادر معركة الحرة رسالة الأخ محمد الشيباني : مواقف المعارضة في خلافة يزيد (ص347-356) .

فهي حادثة متروكة لدي قطعاً ، و ذلك بالنظر إلى ضعف رواتها و الله أعلم .


خروج عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:

كان ابن الزبير رضي الله عنه رافضاً ومتصلباً في رأيه بشأن بيعة يزيد بن معاوية ، و كان الدافع الذي أبداه ابن الزبير رضي الله عنه لسبب رفضه للبيعة : هو كيف يجوز أن يبايع لخليفتين وكلاهما على قيد الحياة ، و لم يورد ابن الزبير أي اعتراض على شخص يزيد خلال محادثته مع معاوية رضي الله عنه ، و بقي ابن الزبير على رفضة البيعة ليزيد بالخلافة ما دام معاوية على قيد الحياة ، و قد كان هذا الشرط في حقيقته ليس ملزماً لابن الزبير بوجوب البيعة ليزيد بمجرد وفاة معاوية ، بل كان عذراً يحتمل أكثر من تأويل ، و كان الحسين بن علي رضي الله عنه يشاطر ابن الزبير هذا الشعور ، فكل منهما يرى في نفسه الأهلية والأحقية بالخلافة دون يزيد .

بعد وفاة معاوية رضي الله عنه خرج ابن الزبير و الحسين بن علي من المدينة وتوجها إلى مكة ، و قد حاول الوليد بن عتبة والي المدينة إرجاع ابن الزبير والحسين بن علي إلى المدينة ، فبعث في أثرهما ركباً ، لكنهم فشلوا في مهمتهم ولم يعثروا عليهم . البلاذري أنساب الأشراف (4/300) .

و في الطريق إلى مكة قابل ابن الزبير والحسين ابن عمر وعبد الله بن عياش بالأبواء ، و هما قادمان من العمرة فقال لهما ابن عمر : أذكركما الله إلا رجعتما ، فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس ، و تنظران فإن اجتمع الناس عليه لم تشذا ، وإن تفرقوا كان الذي تريدان . ابن سعد في الطبقة الخامسة (ص 370) والطبري (5/343) . و قد كان ابن عمر رضي الله عنه يحرص أشد الحرص على اجتماع المسلمين ويخشى من التفرق والتحزب ، و كان يعرف خطر هذا التصرف من الحسين بن علي و ابن الزبير ، و يدرك ما يؤول إليه الموقف فيما بعد ، لكن الاقتناع الذي يحمله ابن الزبير والحسين رضي الله عنهما من صحة موقفهما هو أكبر من أن يرضخا لنصيحة ابن عمر أو غيره .

ومن المؤكد أن ابن الزبير والحسين عندما خرجا إلى مكة قد أخذا في اعتبارهما قداسة الحرم و بيت الله وإجلال المسلمين له ، مما يهيء لهما جواً من الأمن والطمأنينة ، كما يمنحهما الشعور بأنهما بعيدان عن أيدي الأمويين ، ثم إذا حاول الأمويون أن يقوموا بعمل عسكري ضدهما فسوف يكون لذلك الأثر السلبي على الدولة ، كما أنه يعطي حجة لمعارضتهما للحكم الأموي ، و لكي يؤكد ابن الزبير على خاصية الحرم وعلى التجائه لبيت الله ، فقد لقب نفسه بالعائذ . البلاذري (4/301) والبداية والنهاية (9/151) .

و بعد أن خرج الحسين و حدث ما حدث في كربلاء ، بقي ابن الزبير رضي الله عنه وحيداً في مكة ، حيث إن الرجل الذي كان يضفي مكانة ومنزلة على المعارضة قد قتل ، فأحس ابن الزبير بخطورة موقفه فحاول أن يستفيد من دوافع الكره والمقت التي تعتلج في نفوس الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين ، فقام خطيباً في مكة و ترحم على الحسين و ذم قاتليه ، فكان هذا أول هجوم من ابن الزبير رضي الله عنه على يزيد . أنساب الأشراف (4/304) و الطبري (5/475) من طريق أبي مخنف . و نظراً للمشاعر العاطفية التي اثرت على أهل الحجاز عموماً بسبب قتل الحسين رضي الله عنه فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير . البلاذري (4/304) . و قد لاحظ ابن الزبير هذا الشعور الذي عم الحجاز فأخذ يدعو إلى الشورى وينال من يزيد و يشتمه . الأزرقي أخبار مكة (1/201) .

و قد حاول يزيد بن معاوية أن يكسب ابن الزبير و أن لا يعمل عملاً يعقّد النزاع مع ابن الزبير ، فأرسل له رسالة يذكره فيها بفضائله – أي فضائل ابن الزبير - ومآثره في الإسلام ، و يحذره من الفتنة والسعي فيها ، فكان مما قال : أذكرك الله في نفسك فإنك ذو سن من قريش و قد مضى لك سلف صالح ، و قدم صدق من اجتهاد وعبادة فاربب صالح ما مضى ، ولا تبطل ما قدمت من حسن ، وادخل فيما دخل فيه الناس ، و لا تردهم في الفتنة ، ولا تحل ما حرم الله . فأبى أن يبايع . البلاذري (4/303-304) عن المدائني .

غير أن تعنت ابن الزبير رضي الله عنه و رفض البيعة ليزيد وتنقصه ليزيد و بني أمية في خطبه ، جعلت يزيد ينقم عليه و يقسم أن لا يقبل بيعته حتى يأتي إليه مغلولاً . البلاذري (4/304) و الفاكهي في أخبار مكة (2/351) بإسناد حسن . وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير فقد بعث بعشرة من أشراف أهل الشام ، وأعطاهم جامعة من فضة و برنس خز . تاريخ خليفة (ص 251) بإسناد حسن . و في رواية أخرى : أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلة من فضة و قيد من ذهب وجامعة من فضة . الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/416) بسند صحيح .

ولا يهما من هم هؤلاء المبعوثين ، ولكن الذي يهم هو إرسال السلسلة وبرنس الخز ليبر يزيد بقسمه ، فجاء الوفد و دار نقاش بين ابن الزبير والوفد توصلوا من خلاله على أن يلبس ابن الزبير ما جيء به و يذهب إلى يزيد لتحل يمينه ، فاستأذن ابن الزبير رضي الله عنه بضعة أيام يفكر و يستشير ، فاستشار أمه أسماء بنت أبي بكر فقالت : عش نبي كريماً ومت كريماً ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك ، فالموت أحسن من هذا . البلاذري ( 4/308) و الآزرقي في أخبار مكة (1/201) بسند رجاله ثقات . فجاء رد ابن الزبير بالمنع .

وإذا رجعنا إلى معارضة أهل المدينة ، وإخراجهم لبني أمية من المدينة ، نجد أن معارضتهم أعظم من أن يقوم يزيد باحتوائها ، ولاشك أن هذا العمل الذي أقدم عليه أهل المدينة يمثل سابقة خطيرة تهدد مستقبل الدولة وكيان الأمة بأسرها ، ثم إنه من الصعوبة أن يترك يزيد هذه المعارضة الصريحة البينة ، و هذا الانفصال عن الدولة دون أن يتخذ عملاً حاسماً يعيد للدولة قدرتها ونفوذها ، فأرسل جيشاً لحسم الموضوع ، فبعد أن حدث ما حدث من معركة الحرة مع أهل المدينة ، توجه قائد الجيش الشامي مسلم بن عقبة إلى مكة قاصداً ابن الزبير ، غير أنه مات في الطريق ، فتولى قيادة الجيش الحصين بن نمير السكوني ، وتقدم حتى وصل إلى الحجون فعسكر هناك ، وقام ابن الزبير رضي الله عنه في الناس يحثهم على قتال جيش الشام ، و قد انضم إليه المنهزمون من معركة الحرة . البلاذري (4/338) . و دار بينهم القتال المعروف والذي كان بسببه حريق الكعبة .

و حينما نحاول أن نقوّم حركة ابن الزبير ، و مدى تأثيرها على المجتمع الإسلامي في تلك الفترة ، فإننا نجد أن نتيجة الحرب التي دارت بين الحصين وابن الزبير لم تصل إلى نتيجة واضحة بسبب وفاة يزيد بن معاوية وانسحاب جيش الشام ، ولا يمكن دراسة معارضة ابن الزبير من حيث الشعارات التي رفعت فيها ، لأنه مهما كانت مصداقية المعارضة و وضوحها فإن ذلك لا يجعلنا نغفل عن مواقف أولئك الذين عاصروا هذه المعارضة ، فهم الشاهد الرئيسي على هذه المعارضة ، كذلك هم بمثابة القضاة في الحكم على حركة ابن الزبير .

1 - موقف ابن عمر : لم يكن ابن عمر رضي الله عنه – وهو أفضل وأفقه أهل زمانه – راضياً عن معارضة ابن الزبير لخلافة يزيد ، حيث إن يزيد بن معاوية – في نظره - يمثل الخليفة الشرعي للمسلمين ، وأنه قد أعطى البيعة ، ولذا لا يجوّز الخروج عليه ، وقد كان رضي الله عنه يعلم نتائج معارضة ابن الزبير ، حيث سيكون هناك حرب وقتال بين المسلمين ، ويقتل الناس وتبتلى الأمة ، و تعطل الثغور ويتوقف الجهاد في سبيل الله إلى غير ذلك من المفاسد التي يعتقد ابن عمر أنها ستحدث لا محالة إذا استمر ابن الزبير في معارضته .

و لكي يصرف ابن عمر الناس عن مناصرة ابن الزبير فقد قال بأن قتال ابن الزبير إنما هو لأجل الدنيا – و سيأتي تفسير هذا الكلام - . مصنف ابن أبي شيبة (15/80) بسند صحيح ، وابن سعد في الطبقة الخامسة (ص472) بسند صحيح . و أخذ يخبر الناس و يحذرهم أن قتالهم ومناصرتهم لابن الزبير إنما هو قتال على الملك فقط . البخاري مع الفتح (8/32) ، والمسند (8/57) . وكان رضي الله عنه ينظر لابن الزبير ومن معه على أنهم بغاة ، و تمنى مقاتلتهم لبغيهم على بني أمية . الذهبي في تاريخ الإسلام (ص 465) . و لم يكتف ابن عمر بذلك ، بل كان دائم المناصحة لابن الزبير و يحذره من عواقب الفتن ، و كان يعرّفه بأن نهاية هذه المعارضة ستكون بائسة له . مسلم بشرح النووي (16/98) ، و ابن سعد الطبقة الخامسة (ص 517-518) والحاكم (3/553) بأسانيد صحيحة .

هذا هو موقف شيخ الصحابة في عصره و فقيه الأمة بلا منازع ، يعرف خطورة الفتنة ويعلم أن النتائج التي ستترتب على هذه المعارضة ستكون نتائج خطيرة ، وأن المصلحة التي قام من أجلها ابن الزبير – وهي العودة بنظام الحكم إلى نظام الشورى - ستنجم عنها مفسدة أعظم .

2 - موقف ابن عباس : كان رضي الله عنه من أشد المعارضين لموقف ابن الزبير ، فلم ينقل عنه أنه كان راضياً عن ابن الزبير أو أنه تعاطف مع معارضته ، بل إنه لم يبايعه بعد وفاة يزيد بن معاوية ، وكان يصرح بأنه إذا كان تحت حكم بني أمية خير له من حكم ابن الزبير . البخاري مع الفتح (8/177 ) . ولم يكن راضياً عن شخص ابن الزبير ، و يفضل عليه معاوية بن أبي سفيان . مصنف عبد الرزاق (برقم 20985) بسند صحيح ، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/378) بسند صحيح ، والطبري (5/337) بسند حسن ، والطبراني في الكبير (5/337) بسند صحيح .

وكان رضي الله عنه على خلاف مع ابن الزبير في كثير من الأمور . المسند (4/23) و (5/26) و (6/344) . بل و يحمله جزءاً من المسؤولية عن إحلال القتال ببيت الله . البخاري مع الفتح (8/177 ) .

3 - موقف أبي برزة الأسلمي و جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما : كان الصحابي الجليل أبو برزة الأسلمي يرى أن ابن الزبير إنما يقاتل لأجل الدنيا . البخاري مع الفتح (13/74) . و كذلك جندب بن عبد الله يرى أن قتال ابن الزبير إنما هو لأجل الملك . المسند (4/63) و (5/367، 373، 375- 376 ) بسند صحيح . وقولهم جميعاً بأن قتاله من أجل الدنيا إنما كان بسبب النظرة إلى الفتن التي تجري بين المسلمين في ذلك الحين ، و يهدفون إلى تحذير كل من يلتحق ، أو ينوي لانضمام لأي من الطائفتين .

لقد كان تقويم هؤلاء الصحابة و غيرهم لمعارضة ابن الزبير ناتجاً عن اقتناع بخطورة ما أقدم عليه ابن الزبير ، فهم يحرصون على تماسك الصف الإسلامي ، وبالأخص أنهم قريب بفتنة الجمل و صفين ، فما أن تنفس المسلمون الصعداء من جراء تلك الفتن والقتل الذي لحق بهم ، إلا وهم أمام فتنة جديدة ، قد لا تقل بشاعة ومأساة عن تلك الفتنة السابقة ، ولا شك أن هؤلاء الصحابة وغيرهم قد آلمهم تعريض ابن الزبير الحرم للقتال والحرب ، فالحرم يمثل عند الجاهليين مكاناً مقدساً له حرمته و مكانته في نفوسهم ، فجاء الإسلام ليعظم من شأن البيت وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة الحرم ومكة يوم الفتح ، واستمر المسلمون في تعظيم الحرم ، فكان عمر رضي الله عنه يقول : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج . مصنف ابن أبي شيبة (5/153) . و رفض عثمان رضي الله عنه التوجه للحرم لما حصر خوفاً من الإلحاد في حرم الله . المسند (1/67) . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن الحرم : لو وجدت فيه قاتل عمر ما ندهته . المصنف لابن أبي شيبة (5/153) . و قد كانت أحد الأسباب التي جعلت الحسين بن علي رضي الله عنه يخرج من مكة إلى الكوفة هو خوفه من تعريض مكة للحرب و حرمها للاستحلال .

و لكن ابن الزبير رضي الله عنه لما جعل مكة معقلاً له وأعلن معارضته ليزيد بن معاوية تأكد لدى كثير من الصحابة أن مكة ستكون مسرحاً للقتال بين يزيد و ابن الزبير ، لذا فقد حذر عبد الله بن عمرو بن العاص ابن الزبير قائلاً : يا ابن الزبير : إياك والإلحاد في حرم الله ، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يحلها و يحل به رجل من قريش ، لو وزنت ذنوبه بذنوب التقلين لوزنتها ، قال – أي ابن الزبير – فانظره أن لا تكون هو يا ابن عمرو ، فإنك قرأت الكتب و صحبت الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال – أي عبدالله بن عمرو - : فإني أشهدك إن هذا وجهي إلى الشام مجاهداً . المسند (12/9) بسند صحيح ، وابن أبي شيبة في المصنف (11/139) و (15/284) مع بعض الاختلاف . و كان عثمان رضي الله عنه يعرف هذا الحديث ، و لهذا رفض الذهاب إلى مكة لما حصر في المدينة . المسند (1/369) .

هنا لابد من طرح هذا التساؤل : و ما دامت حرمة مكة بهذه الصفة ، و جاء التوعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك الرجل الذي يحل حرمة البيت ، فلماذا استمر ابن الزبير رضي الله عنه وأصر على البقاء بمكة ، حتى حدث القتال بها ؟

للإجابة على هذا التساؤل يمكننا أن نستشف من تحركات ابن الزبير وتركيزه على البقاء بجانب الكعبة طوال سنوات معارضته ، أنه كان يحرص رضي الله عنه إلى إرجاع الحق إلى نصابه ، و لهذا كان مطلبه صريحاً في إرجاع الشورى إلى حياة المسلمين ، وأن يترك الأمويون التفرد بالأمر دون غيرهم ، و حين لقب نفسه بالعائذ بالله ، كان يهدف من وراء ذلك إلى استدرار عطف الناس وإلهاب مشاعرهم تجاه الحرم و من يلوذ به ، و كان رضي الله عنه يظن أن الأمويين لا يمكن أن يخاطروا بغزوه في مكة حيث سيكون لذلك أثر إيجابي لصالحه ، و لهذا فقد قال مصعب الزبيري : زعموا أن الذي دعا عبد الله بن الزبير إلى التعوذ بالبيت شيء سمعه من أبيه ، حين سار من مكة إلى البصرة ، قال : التفت الزبير إلى الكعبة بعدما ودع وتوجه يريد الركوب ، ثم أقبل إلى ابنه عبد الله ، ثم قال : أما والله ما رأيت مثلها لطالب رغبة ، أو خائف رهبة . ابن عساكر في ترجمة عبدالله بن الزبير (446) . و لقد كانت هناك أمكنة مهيأة للحرب والمجالدة تتفوق على طبيعة مكة ، مثل باقي بلاد الحجاز واليمن ، ولو قدر لابن الزبير أن يعارض يزيد أو الذين جاؤوا من بعده في اليمن مثلاً ، لربما تغير الحال ، و كان من الصعوبة أن يحقق جيش يهاجمه أي كسب عسكري .

ولعل مراد الصحابة رضي الله عنهم والذين نقلنا عنهم رأيهم في قتال ابن الزبير وإنه كان من أجل الدنيا ، هو تثبيط الناس عن الاشتراك معه ، ومعرفتهم بأن النتائج التي ستترتب على أي قتال يحدث هي أعظم من المنفعة المرجوة بعده . ومما يدل على ذلك أنه قد نقل عن بعض الصحابة - الذين انتقدوا ابن الزبير - ، الثناء عليه ، فهذا ابن عمر يترحم على ابن الزبير بعد أن قتله الحجاج ويقول : لقد كنت صواماً قواماً تصل الرحم . و يقول أيضاً : رحمك الله ، لقد سَعِدَتْ أمة أنت شرها . مسلم بشرح النووي (16/99) .

وبالرغم من القتال الذي دار بسببه ، إلا أن القتل الذي أصاب إخوته وأصحابه وأصابه هو نفسه ، فإنه مكفر بإذن الله عما اقترف من الذنب ، ولذا قال ابن عمر مخاطباً ابن الزبير و هو مصلوب : أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما قد عملت من الذنوب ألا يعذبك الله . الحاكم في المستدرك (3/552) ، ثم قال : حدثني أبو بكر الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا . المسند (1/181-183) بسند حسن بمجموع شواهده انظر : السلسلة الضعيفة (3/686-687) .

ثم إن بعض الذين قاموا مع ابن الزبير رضي الله عنه هم من الصحابة الأجلاء كالمسور بن مخرمة وعبد الله بن صفوان ومصعب بن عبدالرحمن بن عوف و غيرهم من فضلاء عصرهم ، فمعاذ الله أنهم قاموا وقاتلوا و قتلوا من أجل الدنيا ، بل لقد كان مقصدهم رضي الله عنهم هو تغيير الواقع بالسيف ، لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة و ملك ، و لما أشيع حول يزيد من إشاعات أعطت صورة سيئة للخليفة الأموي في دمشق .

و يبدوا أن تصور بعض الصحابة لبعض الأحاديث الواردة في الفتن هي الدافع لمناصرة ابن الزبير ، فهذا عبد الله بن صفوان يسأل أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها عن الجيش الذي يخسف به ، و كان ذلك أيام ابن الزبير ، فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ عائذ بالبيت ، فيبعث إليه بعث ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم . صحيح مسلم (برقم 2209) ، وفي رواية هي بيداء المدينة ، و في رواية أخرى : سيعوذ بهذا البيت – يعني الكعبة – قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة .. مسلم ( برقم 2210) . ولما توجه أهل الشام إلى مكة بعد معركة الحرة قال عبد الله بن صفوان : أما والله ما هو بهذا الجيش .

والذي ينبغي أن يعرف أن قيام ابن الزبير كان لله ، وليس كما قال أحدهم : وعلى الرغم من أن حركة ابن الزبير لم تكن سوى مزيج عجيب من عدد من العناصر يحركها طموح شخصي و صراع قبلي التقتا في نفس ابن الزبير و شخصيته . محمد ماهر حمادة ، الوثائق السياسية ( ص 18) .

لقد كان رضي الله عنه يهدف من وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى ، و يتولى الأمة أفضلها و كان يخشى من تحول الخلافة إلى ملك ، و كان يرى رضي الله عنه أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله و يضع حداً لانتقال الخلافة إلى ملك و وراثة ، و لهذا لم يدعو لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية . ابن سعد في الطبقات (5/147) و البخاري في التاريخ الكبير (2/132) بإسناد حسن ، والبلاذري (4/57) بإسناد صحيح .

قال ابن كثير رحمه الله بعد ذكره لحديث ضعيف أورده الأمام أحمد في مسنده : أن ابن الزبير قال لعثمان حين حصر : إن عندي نجائب قد أعدتها لك ، فهل لك أن تتحول إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك ؟ قال : لا ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يلحد كبش من قريش ، اسمه عبد الله عليه أوزار الناس . قال ابن كثير : و هذا حديث منكر جداً وفي إسناده ضعف ، و يعقوب أحد الرواة – و هو القمي و فيه تشيع – ومثل هذا لا يقبل تفرده به ، و بتقدير صحته ، فليس هو بعبد الله بن الزبير ، فإنه كان على صفات حميدة و قيامه في الإمارة وإنما كان لله عز وجل ، ثم إنه كان الإمام بعد معاوية بن يزيد لا محالة . البداية النهاية (8/345) .

ومع ذلك فإن التمسك بنصوص الكتاب والسنة بلزوم الجماعة ، والتي تحذر من شق عصا الطاعة هو أولى من الذي أقدم عليه ابن الزبير وأهل المدينة ، فكم من دم أريق و امرأة ترملت و طفل تيتم ، ومال نهب و أضيع و غير ذلك من المفاسد الكبيرة التي ربما لا يحصيها قلم ، ولا يسعها كتاب ، و كان الأولى من كل ذلك أن توجه هذه الجهود الهائلة إلى قتال أعداء الله وإلى تحرير أولئك الذين يرضخون تحت نير الكفر وأعراف الجاهلية .

و بما أن كل طرف يقاتل و يرى أنه على حق ، فلهذا سمى السلف معارضة ابن الزبير فتنة . انظر : الموطأ (1/360) و البخاري مع الفتح (7/521) و (8/32) والبخاري في التاريخ الكبير (1/93) و مسلم في صحيحه (2/903) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/411) و ابن عساكر في تاريخ دمشق ترجمة عبدالله بن الزبير (ص454) ، وابن حجر في تهذيب التهذيب (6/23) .

و ذلك لأنه قتال بين المسلمين لا نفع من وراءه ولا خير فالكل يقاتل عن تأويل ، ومع ذلك نقول كما قال الذهبي في السير (3/377-378) : فليته – أي ابن الزبير - كف عن القتال لمّا رأى الغلبة ، بل ليته لا التجأ إلى البيت .. نعوذ بالله من الفتنة الصماء .

و ليتهم اتبعوا طريقة ابن عمر وغيره من الصحابة والتابعين الذين اعتزلوا الفتن التي جرت بين المسلمين ، وما أجمل قول ابن عمر حين قال : إنما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها ، فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة و ظلمة ، فأخذ بعضنا يميناً و بعضنا شمالاً ، فأخطأنا الطريق ، وأقمنا حيث أدركنا ذلك ، حتى تجلى لنا ذلك ، و أبصرنا الطريق الأول ، فعرفناه فأخذنا فيه ، إنما هؤلاء فتيان قريش يتقاتلون على هذا السلطان ، وعلى هذه الدنيا ، و الله ما أبالي ألا يكون لي ما يقتل فيه بعضهم بعضاً بنعلي . ابن سعد في الطبقات (4/171) وأبو نعيم في الحلية (1/310) .

و في الختام أتمنى أن أكون قد وفقت في كشف اللثام عن الحقيقة و إظهارها ناصعة للجميع ، والله أسأل أن يوفق الجميع و أن يعصمني وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن .

اللهم تجاوز عن جرءتي في الحديث ، و اغفر اللهم الزلة وأقل العثرة ، و وجهك المقصود و أنت خير من قُصد .


المراجع

و هذه بعض المراجع التي قد تفيد في تبيين الموضوع مع شيء من التفصيل :-

1 - وصول بني أمية لمنصب الخلافة ، مقال للدكتور محمد ضيف الله بطاينة ، في مجلة الجامعة الإسلامية المدينة المنورة العدد ( 83 ، 84 ) .

2 - يزيد بن معاوية حياته و عصر ، عمر سليمان العقيلي ، الرياض ، ط1 ، 1408هـ .

3 - ابن الزبير والأمويين ، عبدالعزيز الخراشي ، رسالة ماجستير ، جامعة الملك سعود ، 1408هـ ، لا أعرف أن كانت قد طبعت أم لا .

4 - مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية ، محمد بن عبدالهادي الشيباني ، دار البيارق .

5 - إباحة المدينة وحريق الكعبة في عهد يزيد بن معاوية بين المصادر القديمة والحديثة ، حمد محمد العرينان ، مكتبة ابن تيمية .

6 - حقبة من التاريخ ، عثمان الخميس ، مركز الثقافة الإسلامية .

7 - صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية دراسة نقدية ، فريال بنت عبد الله بن محمود الهديب ، دار أجا .

8 - أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري ، عبد العزيز محمد نور ولي ، دار الخضيري للنشر و التوزيع .

9 - حركة عبد الله بن الزبير ، محمد فالح الرويضي ، رسالة ماجستير ، الجامعة الأردينة ، عمّان 1990م . لا أدري إن كانت قد طبعت أم لا .

10 - قيد الشريد في أخبار يزيد ، محمد بن طولون ، تحقيق : محمد زينهم عزب ، دار الصحوة القاهرة ، 1986م .

11 - يزيد بن معاوية ، سيرته و خلافته ، خالد سليمان محمد بني عبد الرحمن ، رسالة ماجستير ، الجامعة الأردنية ، عمّان ، 1991م . لا أدري إن كانت قد طبعت أم لا .

12 – من أخبار يزيد بن معاوية ، الدكتور عبد العظيم محمود الديب ، مقال في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة ، جامعة قطر ، العدد التاسع 1417هـ .

13 - العواصم من القواصم للقاضي ابن العربي ، تحقيق : محب الدين الخطيب .

كتبه الأستاذ أبو عبد الله الذهبي.