البدعة -- حكمها و سببها و أنواعها

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله. الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولفظه <<افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. و افترقت النصارى علىاثنتين و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. و ستفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة>>. وفي لفظ <<على ثلاث و سبعين ملة>>. وفي رواية قالوا يا رسول الله من الفرق الناجية قال <<من كان على مثل ما أنا عليه اليوم و أصحابي>>. وفي رواية قال <<هي الجماعة يد الله على الجماعة>>. ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة و هم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم. (و الغريب أنه خرج في هذا العصر من يسمي نفسه بأهل السنة و الجماعة مع تضليلهم لعامة المسلمين. فتأمل كيف سموا فرقتهم بالجماعة مع أنها لا تمثل و لا حتى 0.2% من المسلمين.)

و أما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق و البدع و الأهواء. و لا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها. بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة. وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة. (و من الملاحظ هنا أن جميع الفرق الضالة -تقريباً- تشترك في أمر واحد و هو زعمهم أن أغلب المسلمين على ضلال. بل يريد بعضهم أن يقنعنا بأن فرقتهم التي لا تتجاوز نسبة صغيرة جداً من المسلمين هي على الصواب و باقي المسلمين على ضلال!)

وأيضا فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة ويجعل من حالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين.

ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة. ومنهم (الكلام هنا عن الأشاعرة) من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه فيكون محمودا فيما رده من الباطل وقاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل. فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها. ورد بالباطل باطلا بباطل أخف منه. وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة (أهل الكلام من أهل السنة و الجماعة هم الأشاعرة الذين ردوا على المعتزلة).

ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ. والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك. ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها: لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة. بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والإجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والإختلافات. (فخلاصة الأمر أن الأشاعرة نوعان: من رد على الرافضة و المعتزلة لكنه لم يضلل متبعي مذهب السلف و هؤلاء من أهل السنة و الجماعة و إن كانوا على خطأ. و نوع ممن ضلل متبعي السلف و فرق جماعة المسلمين فهؤلاء أهل بدعة و لا شك.)

ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق. ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقا أو عاصيا. وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا له خطأه. وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه.

وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبينها وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع. وقد قال الله تعالى {و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون}. فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين (و بهذا نرد على من رفض أن يلقب الشهيد سيد قطب بالإمام). فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به. وصار متبوعا لمن بعده كما كان تابعا لمن قبله. وإلا فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم وعليها أصبر والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم والله أعلم.

(مجموع الفتاوى 3\345-358)


الفرق بين معتقد السلف و معتقد المفوضة

الأشاعرة اختلفوا في صفات الله ، هل تؤول أم تفوض. هذا الاختلاف بينهم يظهر الحقيقة التالية : أن الأشاعرة فرقتان لا فرقة واحدة :
الفرقة الأولي : تؤول صفات الله وتتهم التي تفوض بأنها تصف النبي بالجهل وتصف الله بالكذب كما ستري .
الفرقة الثانية : لا تتعرض للتأويل بل تحرمه وتدعو للتفويض . وتتهم الأولي بأنها تقول على الله ما لا تعلم . لأن التأويل محتمل والمحتمل مطرود في العقائد .

لقد رد القشيري في التذكرة الشرقية على المفوضة قائلاً :
" وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله الا الله ؟
أليس هذا من أعظم القدح في النبوات وأن النبي صلي الله عليه وسلم ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالي ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم ؟
أليس الله يقول ( بلسان عربي مبين ) ؟ فإذن : على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال " بلسان عربي مبين " إذ لم يكن معلوماً عندهم ، وإلا : فأين هذا البيان ؟
وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعي أنه مما لا تعلمه العرب ؟
ونسبة النبي صلي الله عليه وسلم إلى إنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل : أمر عظيم لا يتخيله مسلم فأن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف .
وقول من يقول : استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها والقدم صفة ذاتية لا يعقل معناها تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل .
وإن قال الخصم بأن هذه الظواهر لا معني لها أصلاً فهو حكم بأنها ملغاة وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدر . وهذا محال 00 وهذا مخالف لمذهب السلف القائلين بإمرارها على ظواهرها " .انتهى.

فهذا خلاف أشعري أشعري وفيه اتهام للمفوضة من الأشاعرة بأنهم نسبوا النبي إلى الجهل ونسبوا الله إلى الكذب وأنهم واقعون في التكييف والتشبيه وملزمون بالغاء الوحي لأنهم الغوا معانيه . وهي اتهامات تعني الكفر. وقد أعترف العز بن عبد السلام بكثرة اختلاف الأشاعرة على ربهم قائلاًً " والعجيب أن الأشعرية أختلفوا في كثير من الصفات كالقدم والبقاء والوجه واليدين والعينين وفي الأحوال وفي تعدد الكلام واتحاده (قواعد الأحكام الكبري 170 .) وأن أصحاب الأشعري مترددون مختلفون في صفات البقاء والقدم هل هي من صفات السلب أم من صفات الذات (أصول الدين 90 الإعلام بقواطع الإسلام 24 ط : دار الكتب العلمية سن 1407 والزواجر عن اقتراف الكباشر للهيتمي / 350). وأعترف بذلك أبو منصور البغدادي بوقوع الخلاف بينهم حول هذه الصفة وكذلك بن حجر الهيتمي المكي (اتحاف السادة المتقين 2 / 95 أصول الدين للبغدادي ص 123) .

والعالم بتأويلات الأشاعرة يعلم أنهم وافقوا المعتزلة في تأويلاتهم ما لم يوافقوا فيه أحمد بن حنبل علم السنة ورأسها. وإن كان منهج السلف التأويل كما توهم بعض المتأخرين منهم فلماذا تواتر عن أحمد منع التأويل: هل جهل أن التأويل مسلك السلف؟ ولماذا اعترف الأشاعرة بأن السلف لم يؤولوا؟

قال مالك وربيعة <<الاستواء معلوم والكيف مجهول>>. قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهما من السلف <<إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه>>. وقد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه، وقال إنهم تأولوها على غير تأويلها، وبين معناها. وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن، وعلموا المراد بآيات الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي، وإن لم يعلموا الكيفية. كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار، وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته. فمن قال من السلف إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى، فهو حق. وأما من قال إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله، فهذا غلط، والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه. قال مجاهد <<عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها>>. وقال عبدالله بن مسعود <<ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت>>. وقال الحسن البصري <<ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها>>. وقال مسروق <<ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن. ولكن علمنا قصر عنه>>. وقال الشعبي <<ما ابتدع قوم بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها>>.

(الصواعق المرسلة ج: 3 ص: 923-925)

أنواع البدع

يقول إمامنا امام دار الهجرة مالك بن انس رحمه الله (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: (اليوم اكملت لكم دينكم)، فما لم يكن يومئذ دينا فلن يكون اليوم دينا)

وقال الإمام مالك رحمه الله؛(لو ان العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئا، ثم نجا من هذه الأهواء، لرجوت أن يكون في اعلى الفردوس، لأن كل كبيرة بين العبد وربه هو منها على رجاء، ولكل هوى ليس هو على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم)

أصل البدع و سبب ظهورها

أعظم ما قيل في ذلك قول إبن تيمية: <<و أصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله و اختياره الهوى على اتباع أمر الله>> (مجموع الفتاوى ج: 10 ص: 169)

و قال أيضاً: <<فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إليس في أمر ربه برأيه وهواه>>. (مجموع الفتاوى ج:3)

و ما أكثر ما نشاهده اليوم ممن يسمون بالمفكرين الإسلاميين و هم مجموعة من الماسونيين و اليساريين و العلمانيين تستروا بإسم الإسلام ليطعنوا في السنة برأيهم كجمال عمارة الذي يدعو بصراحة لإحياء فكر المعتزلة، و غيره ممن يقدمون الهوى و الرأي على النص و الشرع. و لو يعلم هؤلاء أن العقل و المنطق ينقض مبدأهم كله:

في وجوب ذكر الفضائل عند ذكر المساوئ

يقول الإمام الذهبي - عليه رحمة الله تعالى - : " إن الكبير من أئمة العلم ، إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق ، واتسع علمه , وظهر ذكاؤه ، وعرف صلاحه وورعه واتباعه ، يغفر له زلَلُه ، ولا نضلله ونطرحه ، وننسى محاسنه ، نعم ، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ، ونرجو له التوبة من ذلك ".

يقول الإمام الذهبي في ترجمة الإمام ابن خزيمة : (وكتابه في التوحيد : مجلد كبير ، وقد تأول في ذلك حديث الصورة . فليعذر من تأول بعض الصفات ، وأما السلف فما خاضوا في التأويل ، بل آمنوا وكفوا ، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله . ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده – مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق – أهدرناه وبدَّعناه : لقلَّ من يسلم من الأئمة معنا ! رحم الله الجميع بمنه وكرمه .) " السير " ( 14 / 396 )

وابن تيمية فهو مثلا حين يرد على الباقلاني في قوله بخلق القران يقول : وهذا الي نقلوه من انكار ابي حامد وغيره على القاضي ابي بكر الباقلاني هو بسبب هذا الاصل مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على الزندقة والملحدين واهل البدع حتى أنه لم يكن من المنتسبين إلى ابن كلاب والأشعري أجل منه ولا أحسن كتبا ولا تصنيفا . درء التعارض 2/92.

على أنه ينبغي أن يعلم أن رفع الإثم عن العالم المجتهد إذا أخطـأ، لا يعني الإغضاء عن البدعة التي أخطأ فيها. إذ أن إثمها يزول للاجتهاد أو غيره، إلا أنه يجب بيان حالها، وعدم الاقتداء بمن استحلها، وأن لا يقصر أحد في طلب العلم المبيِّن لحقيقتها. ذلك أن الإثم مزال عن المجتهد، لا عن وجه المخالفة من المبتدع.

في وجوب عدم التسرع في التبديع و التفسيق

قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ ; لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُمْ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ ; بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُتْرَكُ بَعْضُ كَلَامِهِ لِخَطَأٍ أَخْطَأَهُ يَكْفُرُ وَلَا يَفْسُقُ ; بَلْ وَلَا يَأْثَمُ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ) الفتاوى الكبرى.

وعلل رحمه الله، عدم تأثيم المجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية بقوله : (ليس كل مَن اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا مَن ترك مأمورًا أو فعل محظورًا، وهذا قول الفقهاء والأئمة، وهو القول المعروف عن سلف الأمة، وقول جمهور المسلمين).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنه وهو من الإسلام وأهله بمكان ، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين . اعلام الموقعين 3 / 283 .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله <<من جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا ، فهو مخطيء ضال مبتدع>> الفتاوى مجلد11 ص 15.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : (إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال ، يلزمه التحري في النقل ، فلا يجزم إلا بما يتحققه ، ولا يكتفي بالقول الشائع ، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح ، وإن كان في الواقعة أمر فادح ، سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفاً في حق المستور فينبغي ألا يبالغ في إفشائه ، ويكتفي بالإشارة ؛ لئلا يكون وقعت منه فلتة ؛ ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفاً بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم ، فلا يرفع الوضيع ، ولا يضع الرفيع) انتهى.

وتأكيدًا لما سبق، فإن الشيخ يقرر أن مسلك أهل السنة، عدم تكفير المجتهد المخطئ في المسائل العملية أو المسائل الاعتقادية، فيقول : (إن المتأوِّل الذي قَصْدُه متابعةُ الرسول صلى الله عليه و سلم لا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق إذا اجتهد فأخطأ. وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية. وأما مسائل العقائد فكثيــر من النــاس كفَّــروا المخطئين فيهــا. وهــذا القــول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين. وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية. ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة، كبعض أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم. و قد يسلكون في التكفير ذلك: فمنهم من يُكفّر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل مَن خرج عما هو عليه، من أهل البدع.. وهذا بعينه قول الخوارج و المعتزلة و الجهمية. وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنه كفّر مَن قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفّر كلُّ مَن قاله مع الجهل والتأويل)

في أن التعصب لشيخ معين هو من صفات أهل البدع

قال عز من قائل ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) النساء أية 115

قال ابن تيمية--رحمه الله-: (من نصب كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا)

وقال ايضا: (فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة كان من أهل البدع والضلال والتفرق)

وقال رحمه الله في ص512 " وليس لأحدٍ أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك ، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم "

وإن ترك المسلم عالماً كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم لقول غيره كان مستحقاً للعذاب قال تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) .

وقال أيضاً رحمه الله : من علم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن يعدل عن السنة إلى غيرها قال تعالى : (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً )) .

يقول شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله: ( الحذر الحذر أيها الرجل أن تكره شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ أو ترده لأجل هواك ؛ أو إنتصار لمذهبك ؛ أو لشيخك ؛ أو لأجل إشتغالك بالشهوات أو بالدنيا ؛ فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله ؛ وألأخذ بما جاء به ؛ بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد ؛ فإن من يطيع أو يطاع إنما يطاع تبعا للرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم ؛ وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع . فاعلم ذلك ؛ واسمع وأطع؛ واتبع ولاتبتدع ؛ تكن أبتر مردودا عليك عملك ) إبن تيميه / مجموع الفتاوى 16/ 292

في أن المبتدع -إن كان مسلماً- خير من الكافر

لقد رد أئمة السلفية كابن القيم وابن تيمية و الذهبي و غيرهم على رؤوس أهل البدع فكانوا مثالاً للعدل وليونة الكلام ونشر الحق بالأسلوب الحسن. بل قد قال الله تعالى لموسى وهارون حينما أرسلهما إلى فرعون {فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى}.

وهذه أسطر قليلة ختم بها الإمام الذهبي ترجمته لبشر المريسي الجهمي رأس المبتدعة في الإسلام : <<ومن كُفر ببدعة وإن جلت ، ليس هو مثل الكافر الأصلي ولا اليهودي والمجوسي. أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر وصام وصلى وحج وزكى -وإن ارتكب العظائم وضل وابتدع- كمن عاند الرسول وعبد الوثن ونبذ الشرائع و كفر. و لكن نبرأ إلى الله من أهل البدع ] .سير أعلام النبلاء جـ10 ص202.

قال ابن تيمية رحمه الله : <<والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء بدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه ، مل من اعتقد أن الذبيح اسحاق لحديث اعتقد ثبوته ، أو اعتقد أن الله لا يرى لقوله تعالى : لا تدركه الأبصار ، ولقوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب . كما احتجت عائشة بهاتين الايتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلى الله عليه وسلم .... وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة . أنها تنتظر الثواب ، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح ، أو اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي لاعتقاده أن قوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى ، يدل على ذلك ، وأن ذلك يقدم على رواية الراوي ، لأن السمع يغلط ، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف ، أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي لاعتقاده أن قوله : أنك لا تسمع الموتى ، يدل على ذلك ، أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح ، لاعتقاده أن العجب إنما يكون ممن جهل السبب والله منزه عن الجهل ، أو اعتقد أن علياً أفضل الصحابة لاعتقاده صحة حديث الطائر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي هذا الطائر ، أو اعتقد أن من جس للعدو ، وأعلمهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم فهو منافق ، كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة ، أو اعتقد أن بعض الكلمات والآيات أنها ليست من القرآن لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت ، كما أنكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها ، وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به ، وكالذي قال لأهله : إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم ، فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ... >> الخ كلامه. انظر الفتاوى 20/33-36

وقال رحمه الله تعالى (( كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو خير من كل من كفر به وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم فإن اليهود والنصارى كفار كفراً معلوماً بالاضطرار من دين الاسلام ، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له لم يكن كافراً به ، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم ))). الفتاوى 35/201 .

فأين هؤلاء المزايدون على شيخ الاسلام من هذا العدل؟!