أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي

نقد كتابات جودت سعيد

عادل التل

كلمة الناشر

نشر الأستاذ الفاضل عادل التل أربع مقالات على صفحات مجلة البيان في الأعداد 63، 64، 65، 66. ثم قام بجمعها مع غيرها ونشرها في كتاب. وقد اخترنا لك هذه المقالات الأربعة، ونشرناها هنا.

المقالة الأولى

تعريفات أولية:

نطمح في هذه الدراسة إلـى وضع معايير ثابتة لتمييز وفرز الكُتاب والمفكرين الذين يتقدمون إلى الناس بالمنهج المادي، من خـــلال الخطاب الإسلامي، والدعوة الإسلامية، وبعبارة أدق، أولئك الذين يحملون النزعة المادية عند التعامل مع النصوص الشرعية. كما نهدف مـن هــذه الدراسة - ومن خلال رؤية معاصرة - إلى إبراز منهج أهل السنة والجـمـاعــة، وعرض طريقة السلف الصالح في مواجهة التحديات الاعتقادية الوافدة.

وهذه الـدراســة لا تشمل الذين يرفضون الامتثال لمنهج الله، وبالوقت نفسه لا تهتم بالرد المباشر عليهم. وبما أن جودت سعيد يعتبر من أولئك الكُتاب المنتمين للفكر المادي والداعين إليه فإن معظم الشـواهــد في هذه الدراسة ستكون من خلال كتبه ورسائله. وقبل أن نبدأ في تحديد الارتباط بين فكر جودت سعيد وبين المنهج المادي، نحتاج إلى إجراء مقارنة خاطفة بين الاتجاهات المعاصرة التي تهتم بتحديد مصادر المعرفة.

ولدينا ثلاثة مناهج ظاهرة تتنازع الهيمنة على الساحة الثقافية في العالم الإسلامي المعاصر:

أولاً: منهج التفكير الإسلامي "الديني": ويـتـمـثـل هـــذا المنهج بالاعتماد على النصوص الشرعية، الـمـتـمـثـلـة بالقــرآن الكريم والسنة النبوية، وتكون القيمة الأساسية فيه لهذه النصوص، وتقدَّم على كل ما عداها من مصادر المعرفة عند الاختلاف.

ثانياً:منهج التفكير الفلسفي "العقلي": ويتمثل هذا المنهج بالاعتماد على المذهب العقلي، وتكون القيمة الأساسية فيه للـعـقـل كمـصدر للمعرفة، ويقدم على غيره من المصادر عند الاختلاف.

يقوم المذهب العقلي على تفسير كل شيء في الوجود من خلال العقل، ســواء فـي إثـبـات الشيء أو نفيه، أو تحديد معانيه..

ثالثاً:مـنـهـج التفكير المادي "الوضعي": ويتمثل بالاتجاه المادي، الذي ينظر إلى العالم الخارجي باعـتـبــاره يمثل الحقيقة الكبرى الكاملة، وأن هذه الحقيقة الموضوعية ذات وجود مستقل عن وعــي الإنسان، وغير خاضعة لشيء، وأن المعرفة الصادرة عن المادة تقدم على كل معرفة أخرى عند التنازع.

والمذهب المادي: هو نظرية تقوم على اعتبار أن المادة هي الحقيقة الوحيدة، وأن الوجود ومظاهره وعملياته، يمكن تفسيرها كمظاهر أو نتائج للمادة.

ما هو المعيار الذي يحدد بموجبه الانتماء إلى أحد هذه المناهج؟

المعيار الذي يحدد الانتماء هو أسلوب التعامل مع النصوص الشرعية:

أ- فـي الـمنهج الإسلامي: نتعامل مع النصوص الشرعية بإثباتها وكما فهمها الصحابة الذين عايشــوا الـتـنـزيل وكما فهمها التابعون من الصحابة، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وطريقة السلف الصالح وأسلوب المدرسة التجديدية.

ب - في المنهج الفلسفي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بطريق التأويل وفقاً لمعطيات العقل، وبتقديم العقل على النقل، وهذا منهج الفرق الضالة كالمعتزلة والرافضة وأمثالهم، وأسلوب المدرسة العقلية المعاصرة.

ج: في المنهج المادي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بإلغاء دلالتها واعتبارها كأنها غير موجودة، والحصول على المعرفة من مصادر أخرى مثل التاريخ أو السير في الأرض أو أحداث الكـون، مما يستدعي -حسب رأي أصحاب هذا المنهج - إلغاء النبوة والاعتماد على السنن (القوانين الطبيعية والاجتماعية) بديلاً عنها (آيات الآفاق والأنفس)، وإعطاء تفسير جديد لمفهوم الوحي ومفهوم التلقي من الله، والاعتماد على قوانين تطور الطبيعة وقوانين تطور المجتمع في سلم الدلالات الموضوعية، وهـــذا هـــــو منهج المدرسة المادية التغييرية.

ولتحديد رأي جودت سعيد، وبيان موقفه من هذه المناهج، قـمـت بـدراسة جميع كتبه ورسائله ومقابلاته، ونستشهد هنا ببعض المقتطفات منها.

ونبدأ من خلال إشادته بالمنهج المادي الماركسي، فعندما تعرض لـشــرح آية ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11] قال: الفكر الماركـســـي لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صـنــع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مئة عام، إنما كان تبنّيهم لهذه الفكرة وإدراكهم لها (1).

موقف غريب وعجيب في آن واحــد..! غريب أن يصدر مثل هذا الرأي عن رجل يعمل في حقل الدعوة، ويسعى لـحـل مشاكل الأمة الإسلامية، فإذا به يشهد للفكر الـمـاركـسـي بالأصالة والثناء عليه، وكأنه بأسلوبه هذا يُشعر الناس أن مصدر الفكر الماركسي من كتاب الله، وظن أنه بهذه الطريقة - ومــــن خــلال ذكر الآيات القرآنية - يتمكن من تدعيم منهجه المادي بين المثقفين إسلامياً، لقد توهم أنه يحقق هذه المهمة بنجاح، ودون عناء أو مشقة، وأنه يحقق بذلك ما عجز عنه أقطاب الفكر الماركسي ودعاته في بلاد الإسلام، حين حاولوا - بالوسائل كافة وجميع السبل- إيجاد الصلة بين المنهج الإسلامي والأفكار الماركسية، ولـكــن جــودت سعيد لا يزال مستمراً في هذه المحاولة، وهو هنا يشيد بهم ويطريهم على أنهم أول من أدرك محتوى هذه الآية من القرآن الكريم، وعمل من خلالها. ويجب أن لا يصيبنا الدوار من هذه الآراء، وأن لا نستغرب هذا الأمر..! لأن الأغرب من ذلك هو دعوته الشباب المسلم إلى القيام بعملية التغيير، انطلاقاً من هذا المبدأ، إنها دعوة سافرة لتبنّي منهج المادية، ويعتبر كتابه "حتى يغيروا ما بأنفسهم" تحقيقاً لهذه الدعوة، فهو يدعوه من خلاله إلى التمسك بجانب الصواب في النظرية الماركسية الشيوعية. ففي هذا الكتاب يقول: "وكذلك إذا تذكرنا أن علينا أن لا نبخس الناس أشياءهم، وأن الحكمة لا تضر من أي وعاء خرجت، فإن الاعتراف بجانب الصواب الذي في النظرية الماركسية لا يضرنا شيئاً، ولكن إذا رفـضـنا جانب الصواب بسبب جانب الكفر الذي عندهم لا نكون مصيبين" (2).

أية حكمة عند الماركسيين وأي صـــواب لديهم؟؟ فما لديهم إلا منهج يحمل عوامل فنائه منذ قيامه، وهو لا يتلاءم مع الفطرة التي فُطر الناس عليها، لذلك تزلزل وانهار كما كان متوقعاً له من قبل، لقد كان الماركسيون دائماً يسخرون من المتمسكين بالفضيلة والحريصين على القيم ويقولون لهم: "أيها المثاليون المغفلون، إنكم تبحثون عن سراب لا وجود له في الحقيقة.. حين تتكلمون عن الحق والفضيلة والصدق والأمانة، إنها كلمات جوفاء يملؤها كل جيل بما يحلو له، ولـكـنـهـا هي فـي ذاتهــا ليست شيئاً ثابتاً محدداً يمكن التعرف عليها".

لقد شعر جودت سعيد - وهو يتقدم إلينا بهذه الأفـكـار المادية - بعامل الضعف والخجل من هذا الطرح لأنه يدرك أن هناك من يخاف على دينه من هذا التوجه نحو الفكر المادي، لذلك تراه يستخدم عبارات الاطمئنان، ويؤكد أن الخـوف علـى آيات الله مستبعد في ظل الأفكار الشيوعية فيقول: "لم يعد هنا ما يجعلنا نخاف على آيـــات الكتاب، لأن آيات الآفاق والأنفس ستبين أن آيات الكتاب هي الحق"(3).

والكاتب صريح في هذا كل الصراحة، وكأن لسان حاله يقول: خذ أفكار الشيوعيين ودَعْ كفرهم، وربما يستمد هذا من المثل الشعبي المعروف: "خــذ مــن أقــوالهم وما عليك من أفعالهم". وقد عبر عن ذلك بقوله: "ولكن حين يصل (الماركسي) مـن أقواله إلى القول: بأنه أصبح بناءً على ذلك من الواجب نبذ كل نظرية إيمانية على الإطلاق - هنا نقول له: إن هذه النتيجة من تلك المقدمة هي الفكرة الطوباوية الناشئة عن الكراهية والعاطفة لا عن الدراسة الموضوعية"(4).

ومـن الـمـعـروف أن الماركسية ليست شعاراً فقط، بل هي واقع عملي واعتقادي ولا يمكن الفصل بـيـنهـمــا، وهم ينطلقون من شعار عريض (لا إله في الوجود والحياة مادة)، فلو فكروا أن يخدعونا - كما خدع الكاتب من قبل - ويبدلوا شعارهم إلى عبارة أخرى مثل: (يوجد إله ولكن الحياة مادة) فهل يتبدل من الأمر شيء؟ وهل يجوز لنا أن نقبل بالنظرية المادية من الشيوعـيين من أجل التبديل الصوري؟!، لا يكون ذلك إلا إذا أجبنا - وعلى سبيل الدعابة - أن نطلق على من يكون إيمانه على هذا النحو تسمية جديدة، (الماركسي المسلم) أو (الشيخ الأحمر)!.

إن تقديم الأفكار الـمـاركـسـيـة من خلال إلباسها العباءة الإسلامية أمر في غاية الخطورة، وتمثل هذه العملية حالة خداع كبيرة، لا تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها باستمرار. ولا يزال صدى تلك المواجهـات قائماً في الأذهان، حين حاول البعض أن يقدم الإسلام إلى الناس في ثوب الاشتراكية، أو من خلال نظام الديمقراطية، وقد اشتد نكير العلماء في مواجهة هذه المحاولة مما جعل معظمهم يتراجعون عن موقفهم ويتبرؤون مما كتبوه في هذا الاتجاه.

وأما جودت سعيد فكان له أسلوب آخر، وطريقة مبتكرة للتعامل مع هذه المسألة، حيث دعــا صــراحــة للتمسك بالفكر الماركسي من خلال الدعوة للأخذ بجانب الصواب الذي اكتشفه في النظرية الماركسية، يقول في كتابه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"[الرعد:11]* في أسلوب التباهي: "وحين يقول الماركسي: إن دراسة التاريخ الاجتماعي أصبحت علماً، ينبغي ألا نقول له أخطأت، بل نقول له: هذا حق، وإذا اعتبر أن مظاهر الطبيعة قادرة على إعطائنا حقائق موضوعية، عـلـيـنـا أن نراه تقـريــراً بأن آيــات الآفاق تعطي حقائق موضوعية، ونزيد له أيضاً: بأن آيات الأنفس كذلك تعطي حـقــائق موضوعية"(5).

هذا هو المنهج المادي من بدايته إلى نهايته.. وهذه هي الماركسية، تطل برأسها من خلاله! والكاتب لم يدعنا في حيرة من أمرنا للتأكد من موقفه هـــذا، واعتناقه جميع الجوانب في النظرية الماركسية، فها هو يقرر أسبقية المادة في الوجـــود كما تقررها المادية الماركسية، ويعتقد بضرورة تقديم المعرفة الصادرة عن المادة على كل شيء كما يقدمونها.

يقول: "فالوجود الخارجي المادي هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند الاختلاف، والصور الذهنية قابلة للزيادة أو النقصان"(6). والكاتب يلتقي في هذا المنهج المادي مع الماركسيين إلى درجة التطابق تقريباً وسأترك المجال لرمـــــوز الماركسية في إبراز جوانب الالتقاء بين أفكارهم وفكره، يقول ستالين: "إن المادة والطـبـيـعـة والكــائن هي حقيقة موضوعية، موجودة خارج الإدراك أو الشعور وبصورة مستقلة عنه، وأن المادة هي عنصر أول، لأنه منبه الاحساسات والتصور والشعور، بينما الإدراك هو عنصر ثانٍ مشتق لأنه انعكاس للمادة"(7). وقال إنجلز: "وخارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شيء"(8).

ومن الممكن أن يطرح القارئ علينا سؤالاً محدداً، هل يقدم جودت سعيد الـمادة أو الواقع على كلام الله؟، يقول في رسالته - مستخدماً أسلوب السخرية من الـمـسـلـمـيـن الذين يتمسكون بالنصوص الشرعية -: "فالمسلمون - بكل سذاجة - يظنون أن لهم القدرة على الاتـصـــال بالمعاني التي أرادها الله بواسطة هذه اللغة، دون الرجوع إلى الواقع الــذي تتحدث عنه.."(9)، يجب الانتباه إلى استخدام أسلوب التعميم "المسلمون" دون استثناء، كما يلاحظ تجهيل الأمة التي كانت تعتمد في جميع مراحلها على اللغة العربية، ولهذا قـال -تعالـى-:((كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ))[ فصلت:3]. وأما وصف الـمـسلمين بالسذاجة والجهل فلا تسأل عن ذلك، فقد ملأ كتابه بهذا اللون من التقريع دون تفريق أو استثناء، ثم يقول محذراً المسلمين من العودة إلى النصوص أو التمسك بها: "ولكن ينبغي أن نتعمق في فهم هذه الظاهرة، إن العودة إلى النصوص لم تكن لتحتل هذه الظـاهــرة، ولو اقتصر على فهم هذه الحقيقة من الكلام أو من اللغة أو من النص لاستمر القـتـال، ولوجد ولأمكن أن تؤول النصوص ؛ لأن النصوص قابلة للتأويل" (10).

و ها هــو هنا يرفض فهم النصوص بواسطة اللغة، كما يرفض مفهوم التأويل، وهو بهذا ينتصر للمـنـهـج المادي في مواجهة منهج السلف الصالح والمنهج العقلاني على حد سواء، ولكنه ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة خطيرة وذلك بالتعبير عن كلام الله بأسلوب الرمزية. لقد تعامل الله معنا بالرموز والحقائق، وقال لنا بأن نرجع دائماً إلى الواقع والنظر فيه، وأن الرموز إن هي إلا مساعدات مرحلية مؤقتة يمكن أن تختلف بحسب الزمان والمكان، ولكن سننه الواقعية لن تتغير وكلما رجعنا إليها نجدها كما هي ثابتة: ((فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً))[الأحزاب:43]، وليست الرموز إلا ((أَسْمَاء)) ((مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ))[الأعراف:71] (11)، وموضع الخطر هو اعتبار كلام الله رمزاً وهو اللغة، وأن الواقع يمثل الحقائق، ثم يظهر تناقضه الفاضح حين ذكر في أول الكلام أن الله تعامل مع البشر بالرموز ثم قال في نهاية الكلام: إن الرموز ((مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ))[الأعراف:71]، والله - تعالى - يقول: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)) [البقرة:31]، وهـكـذا يصبح الواقع المادي عنده مقدَّماً على كلام الله، حيث يقول حول ذلك: "فحين يلح الـقـــرآن الكريم على الرجوع إلى الكون المادي والاجتماعي لفهم سننه ونظامه، فإنه يدل بذلك عـلـى أن الـواقــــع أدل على ذاته في كلامه له"(12)، وهذا تصريح واضح في اعتماد الواقع واستبعاد كلام الله، وقد قاده هذا الاعتقاد إلى موقف أشد خطراً وأبعد ظلماً، وذلك بالإعلان عن انتهاء مهمة النبوة نفسها، والتعامل مع السنن والقوانين.

انتهاء النبوة:

يقــول الكاتب: "من هنا لما بدأ الاهتمام بالواقع والتفاهم مع الله بواسطة سننه، توقفت النبوة لأن النبوة مرحلة انتهت"(13)، ويقوم هذا الرأي من واقع إيمانه بمراحل التاريخ واعـتـبـار مـرحلة البشرية خلال فترة الأنبياء مرحلة طفولية، والمرحلة المعاصرة مرحلة مراهقة، وأن البشرية بدأت تتجه نحو مرحلة الرشد، وقد استمد هذا التصور من آراء (أوغست كونت) مؤسس المذهب الوضعي المادي في أوربا، وعن مرحلية النبوة يقول نقلاً عن إقبال: "إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة - ختم - النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً - إلى الأبد - على مقود يقاد منه وأن الإنسان لكي يحصل على كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو"(14).

هل يصدق أن هذا الكلام يصدر عن إنسان عاقل؟ أن يقرر انتهاء مهمة النبوة؟ وتسليم زمام الأمور إلى الإنسان، وهذا ما دعا إليه علماء أوربا الوضعيون الماديون، وهذه الفقرة بالذات مستقاة من أفـكـار "فـريـدريـك نـيـشـته" الذي كان يقول بنظرية الإنسان الكامل أو (إنسان السوبر مان)(**)، ويقرر الكاتب أن البديل عن النبوة التي تتضمن نـصـوصـــاً مــن كـلام وحروف إلى السنن التي ليـسـت كـلامـــاً وحروفاً، فانظر إلى قوله: "انتبه إلى هذا محمد إقبال، وخاصة في بحث ختم النبوة، لماذا ختمت النبوة؟ ولم يعد نبي ولا كتاب، لأن الكتاب والنبي الخاتم دلنا على الطريق الذي لا ينتهي، دلنا على الكلام الذي ليس هو كــلام حروف، وإنما حقائق ملموسة"(15). أليس هذا تصريحاً باستبعاد كلام الله مــن العمل، والاعتماد على الكلام الذي يمثل الحقائق الملموسة؟ أي الحقائق المادية الحسية.

ولنا أن نتساءل كما أن من حق القارئ أن يتساءل معنا كيف يتصور جودت سعيد النبوة؟ وما هي الصيغة التي يعتمدها في تحديدها؟.

ينسجم رأيه حول النبوة مع مفهومه المادي، وإيمانه بالتطور ويعبر عن ذلك بقوله:

"وفـي طـفــولـة البشرية، تتطور القوة الروحية إلى ما أسميه "الوعي النبوي" وهو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشخصي وذلك بتزويد الناس بأحكام واختيارات جاهزة، وأساليب للعمل أُعدت من قبل"(16).

إذن النبوة قوة روحية واستعداد شخصي واختيارات وأساليب للعمل أو وعي نبوي لا أكثر ولا أقل، فأين الوحي المباشر من الله (تعالى)؟!

يقول ابن تيمية: "والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات على وجه يوافق أصولهم الفاسدة - ابن سينا وأمثاله - لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون بخبر يأتيهم عن الله، لا بخبر مَلَك ولا غيره، بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة وعقلية أكمل من غيرهم في قوة الحدس ويسمون ذلك.. القوة الحدسية.." (17).

ومـن أجـــل هذا المفهوم يعتـقــد محمد إقبال وجودت في ضرورة انتهاء النبوة وإلغاء دلالة النصوص الـصـادرة عنها وفي ذلــك يقول الثاني: "الذي أريد أن نفهمه من هذا أن دلالة الكتاب يمكن أن تُلغى إلغاءً تاماً، وكأنها غير موجودة، والذي سينبه المسلمين إلى هذا، ما جاء في الكتاب من الاهتمام بالتاريخ وأحوال البشر وحوادث التاريخ،أي أن الذي سيعلّمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ هي التي ستعلمنا.. "(18).

ثم يقول بما يؤكـد تقديمه للواقع على كل شيء ولو كان كلام الله:"إن صخرة ما أدل على نفسها من كل كلام يقال عنها حتى لو كان كلام الله.."(19). وقد لوحظ أن جودت سعيد يتضجر ويتضايق كلما احتج عليه أحد بقوله: قال الله أو قال الرسول،أو حتى مجرد ذكر الله أو الرسول. ويتضح ضيقه في قوله:".. لم تعد ترهبني قعقعة الكلمات: الروح، النفس، الله أو الرسول أو قال فلان وفلان، نريـد أن نتـحـــدث مـــاذا يحدث لنا، وكيف يحدث الفهـم؟ كـيــف يـعـرف ما فهمناه أننا فهمناه؟ وكيف انتقـلـت إليَّ هذه الأفكار؟ دعونا من الحديث عن السماء، ولنبحث في الأرض، لنعد إلى الإنسان المولود على الفطرة.

كيف تصوغ البيئة هذا المولود؟!، إن ما يحدث أمامنا بقوى تحيط بنا وتصدر منا وليس غيباً ولا خارقاً، كما أنها ليست مما لا يستطيع العقل فهمها" (20).

لماذا لم تعد ترهبه كلمات "الله" أو "الرسول"؟ ماذا حدث عنده حتى فقدت هذه الكلمات قدسيتها في نفسه؟؟ ألسنا مسلمين؟؟ لماذا يريد منا أن ندع الحديث عن السماء، ونخلد إلى الأرض؟ ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ (175) ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ))[الأعراف:175-176].

* يتبع *

المراجع:

1- كتاب "اقرأ وربك الأكرم"، جودت سعيد، ص219.

2-3 كتاب "حتى يغيروا ما بأنفسهم"، جودت سعيد، ص80.

4- المصدر السابق، ص81.

* وضع المؤلف هذه الآية الكريمة عنواناً لكتابه.

5- المصدر السابق، ص81.

6- كتاب "اقرأ وربك الأكرم"، جودت سعيد، ص57.

7- المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ص29.

8- فورباخ ونهاية الفلسفة، ص16، طبعة دار التقدم بموسكو.

9- رسالة "انظروا"،40، اللغة والواقع، جودت سعيد، ص4.

10- المصدر السابق، ص5.

 11 - المصدر السابق، ص7.

12- المصدر السابق، ص8.

13- المصدر السابق، ص7.

14- كتاب العمل، ص131، جودت سعيد، وتجديد الفكر الديني، محمد إقبال، ص143-145.

** ذكر هذه النظرية الفاسدة في كتابه المترجَم إلى العربية "هكذا تكلم زَرادشت". البيان

15- رسالة "انظروا"، 40، ص7.

16- كتاب العمل، جودت سعيد، ص130.

17- درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 1/179.

18-19 رسالة "انظروا"، 40، ص8..

20- المصدر السابق، ص4.

 


المقالة الثانية

اتكأ الكاتب - في تقديمه المادة - عـلـى مـفـهـوم مـراتــب الوجود السائدة عند الفلاسفة والمشهور في الفلسفة، أن الصراع قائم فيها بين منهجين:

ا- المنهج العقلي "المثالي" الذي يقوم على الاعتقاد بأن الـفـكـر هو السابق في الوجود على المادة، ومن ثم يجب تقديم المعرفة الصادرة عن الفكر في كل شيء.

2- المنهج المادي "الوضعي" الذي يقوم على الاعتقاد بأن الـمــــادة هي أقدم من الفكر في الوجود، ولذلك يجب تقديم المعرفة الصادرة عن المادة على كل شيء..

وهذه الأفكار التي يتبناها جودت سعيد، ويدعو إلى التمسك بهـــا تشبه الأفكار الماركسية، وإذا كان الموقف النقدي الشامل يدفعنا لأن نأخذ الجانب التاريخي لهذه الآراء بالحسبان، فإننا نلمح - وبصورة جازمة - أن تلك الأفكار ترجع في جذورها التاريخية إلى:

ا- منهج الفلاسفة وطريقتهم في الاستدلال.

2- منهج القدرية المعطلة - نفاة القدر - الذين وقفوا إلى جانب الفكر المادي الأرسطي بعد انتقال العدوى في الصراع إلى علم الكلام في ديار الإسلام، وقالوا بنفـــي الصفات - الذي قالت به المعتزلة والرافضة - وهؤلاء المعطلة يعتبرون أسلافاً لأصحاب الفكر المادي المندسين بين المسلمين.

3- علم الاجتماع الغربي، الـقـائـم عـلـى الـمـذهب الوضعي، والذي نشأ في عصر النهضة الأوربية، وهؤلاء يعتبرون أرسطو وأصحابه أسلافاً لهم.

أولاً: تقديم المادة على العقل والنقل:

اهتم جودت سعيد بتعريف كل مرتبة من مراتب الوجود، وبيان خصائصها(*) ليجعل هذا الأسلوب في الاستدلال ذريعة لتقديم المادة على الـعـقـل والـنقـل، وبـعـد أن استعرض هذه المراتب انتهى إلى القول (1): (فالوجود الخارجي - المادي - هو الثابت الــذي كـلـمـــا اخـتلـفـنــا فـي تفـسـيره رجعنا إليه؛ ودققنا النظر والبحث والتعامل معه لنصحح الصور الذهنية). ومنه فإن كل شيء خارج الواقع - المادة - فهو عنده قابل للزيادة والنقصان (2) ولا يجوز الاعتماد عليه، ويشمل هذا المفهوم النصوص الشرعية (كتاباً وسنة). ويقول في رسالة اللغة والواقع: "ولكن البدء في الدراسة من كتاب الله دون أن يعترف للواقع، أنه هو الذي في النهاية سيشهد بمعنى الكتاب وصدقه "(3).

ثانياً: تقديم العقل على النقل:

يحرص جودت سعيد علـى تقديم المادة (الواقع) على العقل والنقل - كما رأينا - إلا أنه يقدم العقل على الـنـقـــل أيضاً، لأن هذا التقديم ينسجم مع مفهوم مراتب الوجود الذي اعتمده في تقدم الصور الـذهنية - العقلية - على اللفظ والكتابة، وقد أكثر من النقل عن أبي حامد الغزالي، وتبني منهجه، وخاصة قول الغزالي في المنطق اليوناني: (هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بعلوم أصلاً)..

ونلاحظ أن جودت سعيد قـــد حذف كلمة "المنطق"(4) من كلام الغزالي لإبعاد الشبهة عن نفسه في متابعة الفلاسفة والمناطقة الإغريق، والاستمداد من أفكارهم، والمعروف أن تقديم العقل على النقل يمثل منهج الأشاعرة والـمـعـتـزلــة، ومـــن أجل ذلك بدّل جودت تلك المصطلحات بألفاظ معاصرة، وتُمَثل هذه الفعلة عملية خداع وتمويه خطيرة.

ثالثاً: مصدر المعرفة:

إن قضية مصدر المعرفة في الإسلام محسومة، وهي لا تتفق مع منهج طريقة الفلاسفة ولم مع أسلوبهم، فأهل السنة والجماعة يقدِّمون القرآن الكريم والسنة النبوية عند التنازع، ولا يقدمون ما يتوصل إليه عن طريق الحس ولا عن طريق العقل. ولابن تيمية كلام مهم في بيان منهج أهل السنة في موضوع العلم حيث يقول: "طرق العلم ثلاثة: الحس والعقل، والمركب منهما، كالخبر، فمن الأمور ما لا يمكن عمله إلا بالخبر، كما يعلمه كل شخص بأخبار الصادقين كالخبر المتواتر، وما يعلم بخبر الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - ويمتنع أن يقوم دليل صحيح، على أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر ولهذا كان أكمل الأمم علماً المقرون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية، فمن كذًّب بطريق منها فاته من العلوم بحسب ما كذب من تلك الطرق "(5).

وكثيراً ما يحاول جودت سعيد أن يذكر ابن تيمية في موضوع مراتب الوجود، مما يوهم القارئ أن رأيه في هذه القضية يتطابق مع رأي ابن تيمية، ولكن الحقيقة غير ذلك على الإطلاق، لأن ابن تيمية وأهل السنة جميعاً لا يقدمون على الشرع شيئاً، فهم يعارضون المعتزلة وغيرهم في تقديم العقل على النقل وكذاك يعارضون تقديم الحس على النصوص، ولا يبحثون المسألة مع الفـلاسفة أصلاً، ولا من خلال مراتب الوجود، كما أراد جودت سعيد أن يبعث هذا الأسلوب من جديد. ولابن تيمية رأي واضح في هذا المقام ونحتاج أن نذكره لقطع طريق التدلـيس والنقل المبتور الذي اعتاد جودت أن يستخدمه في مثل هذه المواضع، يقول ابن تيمية:"وهو سبحانه عَلِمَ ما في الأذهان، وخلق ما في الأعيان وكلاهما مجعول له، لكنّ الذي فـي الـخـــارج جعله جعلاً خلقياً، والذي في الذهن جعله جعلاً تعليمياً.."(6).

ولابن تيمية كلام صريح في رد الـقـضـيـــة التي يعتمدها جودت سعيد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين من خلال مراتب الوجود حيث يقول (7): "والطريق المشهور عند المتكلمين هو: الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وقد بينا الكلام على هذه في غير موضع، وأنها مخالفة للشرع والعقل.. ". والذي نصل إليه من هذه المقارنة أن طريقة جودت سعيد في تحديد مصدر المعرفة تَتِّمُّ وفق أسلوب الفلاسفة وعلماء الكلام وتخالف منهج أهل السنة والجماعة.

مفهوم السنن

بينا - في الحلقة السابقة- أن جودت يجعل السنن في مقابل النبوة حيث يقول: "من هنا بدأ الاهتمام بالوقائع والتفاهم مع الله بواسطة سننه، توقفت النبوة لأن النبوة مرحلية وانتهت "(8)!

ما هي هذه السنن التي استبدلها بالنبوة؟

يقول الكاتب: "والناس لا يعرفون السـنـة إلا في الطبيعة، ولا يعترفون بها في الأنفس، ويعتبرون عالم الأنفس خارج الثبات، أو خــارج السنة وهذا مناقض لمنهج القرآن، بل لمناهج المسلمين السابقين - ولقد جاء إلى العالم الإسلامي قصر معنى العلم على الآفاق من المفهوم الغربي "(9).

يفهم من خلال هذا النص أمراً محدداً: أن الكاتب يعتبر مجال السنن:

1- في المجتمع.

2- في الأنفس.

3- في الطبيعة.

والذي يبحث في القرآن الكريم والـسـنــة النبوية وأقوال الصحابة لا تظهر له جميع هذه المجالات،التي ذكرها الكاتب. قال تعالى: ((سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً))[الأحزاب 38]،أي حكم الله فيها. وقال سبحانه أيضاً: ((سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ)) [ غافر: 85].

وفي كل آية جاء فيها لفظ السنة، كان يدل على أحــد جوانب الدين، ويكون فيها دعوة للاتباع أو موعظة للاعتبار. وأما في مجال الطبيعة، وفي الدلالة على أحداثها، كان القرآن يطلق على مثل هذه المواضيع لفظ "الآيات" مثل قولـــه تعالى: ((وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ))[يس:37]، وإن ما فعله الكاتب من تعميم مفهوم السنن ليخرج عن إطاره الشرعي، ويقوم بالغاء النبوة والتعامل مع السنن، فإن هذا يعـتـبــر خـروجــاً عن المنهج الـقـرآنــي ومناقضاً له. وإدراك هذا الأمر من الأهمية بمكان كبير، ولو كان الأمر سـيـبـقــى مـجــرد اصـطـلاح فحسب، ولا تقوم عليه نتائج أخرى، لما نشأ عليه أي اعتراض. ولكننا نتعامل مع كــاتــب يؤمـن بالمنهج المادي ويعتقد بانتهاء النبوة، وانحسار أهميتها ومن هنا ندرك خطر الخلط في موضــوع المصطلحات، وأثرها في تعطيل الآيات في كتاب الله، وتحريفها عن معانيها، واستبعاد العمل بأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-وإخضاعها للسنن، فعندما يذكر مثالاً للتفريق بين الواقع والقرآن يقول: "القرآن يقول عن القلوب أنها التي تفـقـه، أي أن القـلـب هو عضو الفهم، ولكن الواقع، أي التعامل مع الواقع كشف أن القلب ما هو إلا مضخة، ولا علاقة له بالفهم، وإنما فقط هذه المضخة تشتغل بسرعة أو ببطء حسب الأوامر التي تصدر إليها، وليس هي التي تصدر الأوامر"(10). وهكذا ندرك خطر هذا التوجه، وســـوء هذا التصرف. ماذا حدث له حتى تجرأ على تكذيب القرآن بهذه الطريقة المزرية؟ إن القرآن لم يقل إن عضو الفهم هو العضلة التي تضخ الدم - كما يزعم - وإنما هذا افتراء مــن جودت سعيد، وتطاول على كتاب الله لا يتصور. إن الآية التي ألمح إليها هي قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ))[الحج 46]. إن ما صدر عنه في تفسير الآية يعتبر خروجاً على أصول التفسير وإغفالاً لمفهوم اللغة التي نزل بها القرآن، ولو أنه عــاد - قبل أن يصدر تفسيره الجائر - إلى معاجم اللغة العربية لوجد أن معنى القلب فيها (خالص الشيء وشريفه)، وقد جاء في لسان العرب بأنه قد يعبر بالقلب عن العقل. وقد عرف الـنـبـي -صلى الله عليه وسلم- في بيانه بين القلب والفؤاد حين قال: »أتاكم أهل اليمن هـــم أرق أفئدة وألين قلوباً«(11). وإن كنا غير معنيين الآن في بحث مفهوم القلب والعقل إلا أنـــــــه من الضروري كشف عملية التضليل التي يمارسها أصحاب الاتجاه المادي في كتاب الله، من جهة الفصل بين اللغة وآيات الكتاب، ومحاولة إيجاد التناقض بين الكتاب والواقع وقد قال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الحَرِيقِ)) [الحج:8-9].

الوجود السنني

يربط الكاتب بين القدر وبين مراتب الوجود فيقول (12): (وإن الوجود الخارجي-المادي - الذي اعتبرناه أساس مراتب الوجود راجع إلى هذا الوجود السنني -القانون-)،أي أن القانون هو القدر.

وقد عبر الكاتب عن القدر - الوجود السنني - بأسلوب آخر حيث يقول: (هذا الوجود السنني، هو نوع آخر من مراتب الوجود، وربما يكون مدخلاً لتصور الروح، والله تعالى له الأمر والخلق، والروح من أمر الله، ((قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي))[الإسراء 85]، وأمر الله وكلمة الله وسنة الله، ألفاظ متقاربة في مدلولها، ولكن سنة الله توصف بأنها لا تتبدل ولا تتحول "(13).

يفهم من هذا النص أن الكاتب يجعل السنن في مقام كلام الله وتعبيراً عن قدر الله وأمره في الخلق، وكأن الله ليس له تدخل في الكون إلا من خلال السنن التي قدرها قبل الخلــق، وهذا يتفق مع مفهوم المذهب الوضعي الذي يجعل قوانين الطبيعة وسننها المصدر الأساسي للمعرفة، وهذا ما تبناه الكاتب ودعا إليه من خلال فكرة مراتب الوجود. وبما أن السنــة قابلة للكشف والمعرفة، والروح من أمر الله، فإن الروح سيكون قابلاً للمعرفة والتـصـــور، وسيكون - حسب هذا المفهوم - كشف حقيقة الروح قريباً بمتناول الذين وصلوا في مجال العلوم إلى مرحلة الانطلاق وهم - كما يزعم الكاتب - محور موسكو - واشنطن، وهــــذا التصور يقود إلى انتهاء مفهوم الغيب من الحياة.

وهذه مفارقة كبيرة، وانحراف عظيم في التصور الاعتقادي، أن نجمع بين أمر الله وكلمة الله وسنة الله ليكون الجميع في متناول المعرفة البشرية - كما يصورها الكاتب - في موضوع الوصول إلى معرفة الروح، فإن ذلك ينسجم مع مفهوم المذهب الوضعي المعاصر، بإخضاع كـــل شــيء للـمـنـهـج التجريبي كما ينسجم أيضاً مع مفهوم القدرية، وذلك بالإشارة إلى استنباط آخر يقوم على هذا التصور، وهو أن الله يتفاهم مع البشر بواسطة السنن - الأنبياء من البشر - وأن الله لا يـتـكـلـم إلا من خلال السنن، وهذا هو التعطيل الذي كانت عليه القدرية، الذين ينفون الصفات عن الله تعالى(14).

ونستطيع أن نختزل رأيه من خلال معادلة رياضية..

كلام الله = قدر الله = الوجود السنني »المادي« = القانون

كلمة الله = أمر الله = سنة الله!

وبما أن سنة الله قابلة للكشف عنده، فلا غيب بعد ذلك.. !!

المراجع:

*- تناول جودت سعيد موضوع مراتب الوجــود في كتابه (اقرأ وربك الأكرم) وخصص ما يعادل خمس حجم الكتاب (47 - 104) لإقرار مبدأ تقديم المادة (الواقع) على كل شيء، وقد قام بتغيير بعض الألفاظ، فـهـــل يـظــن أن هذا يبعد عنه التهمة في موافقة الفلاسفة والقدرية والمعتزلة على آرائهم؟!

1 - 2 كتاب "اقرأ وربك الأكرم"، ص 57.

3- رسالة انظروا 40 - اللغة والواقع ص 9.

4- اقرأ وربك الأكرم، ص 50.

5- درء تعارض العقل والنقل، 1/678.

6- مجموع فتاوى ابن تيمية، 16/267.

7-مجموع فتاوى ابن تيمية 16/267): 8- رسالة اللغة والواقع، ص 7.

9- اقرأ وربك الأكرم، ص 95.

10- رسالة انظروا 40، اللغة والواقع، ص 9.

11- حديث متفق عليه، البخاري: 388 4، مسلم: إيمان 84.

12- اقرأ وربك الأكرم، ص 91.

13- اقرأ وربك الأكرم، ص 93.

14- كان أول القدرية الذين ينفون الصفات (الجعد بن درهم) وقد ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط، وقال إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وهو بهذا الكلام، ينكر أن يكون الله قادراً على الكلام مع موسى، وفي هذا مخالفة لصريح القرآن.

 


المقالة الثالثة

إن الـخـطـورة في تبني المنهج المادي، لا تنـشـأ مـن خلال الانتماء الاعتقادي لهذا المنهج كشعار فحسب، وإنما تكمن في الآثار والنتائج الـتي تترتب على هذا الانتماء، حيث تعتبر هــذه الآثـــــار من مستلزماته الأساسية، ويتضح هذا الأمر من خلال التطبيق العملي لهذا المنهج في واقع الحياة. لأن الالتزام بالمنهج المادي، يفرض على معتنقيه التزامات أخرى تقوم عليه، وترتبط به ارتباطاً كاملاً لا تنفك عنه.

وبما أن جودت سـعــيد من المنتمين لهذا المنهج - كـمــا أثبتنا هــذا من قبل - فإنه يدعو صراحة للتمسك بأســس هذا المنهج، والرجوع إلى هذه الأسس عـند التنازع أو الاختلاف حيث يقول: "إن الـوجـود الخارجي للمادة أو المجتمع له حقيقة واقعية، يتفاوت تصاور الناس لها حسب خلفـيـاتهم الفكرية، وعـنـد الاخـتــــلاف يـتـم الـرجــــوع إلى الوجـود الخارجي"(1). والمـقـصــود بالوجود الخارجي هو الوجود المادي أو المادة وهذا يمثل لبُّ النظرية الماركسية، وبما أن النظرية الماركسية تقوم على أُسُسٍ محددة لا تنفك عن بعضها، وهي المادية الجدلية والمادية التاريخية، وشملها قوانين تطور المجتمع، فإن عزل أي جانب منها للعمل به منفرداً، لا يفيد في قطع الصلة بأصل النظرية الماركـسـيـة وفي هــذا يقول ستالين: "إن المادية الديالكتيكية، والمادية التاريخية تظهران كعِلم واحد وكفلسفـة متكاملة، فلا المادية التاريخية معقولة بدون المادية الديالكتيكية، ولا المادية الديالكتيكية ممكنة بدون المادية التاريخية.."(2)، وبناء على ذلك فإن أي أصل من أصول الـنــظــرية الـمـاركسية لا يكون صواباً على أي حال، لأن كل أصل منها يقوم على المادية، يـقــول لينين: "إن هذه الفلسفة الماركسية المسبوكة من قطعة فولاذية واحدة، لا يمكن انتزاع أي منطلق منها، ولا أي جزء جوهري واحد دون الخروج عن الحقيقة الموضوعية"(3).

ونستطيع هنا أن نميز قاعدتين بارزتين يتسم بهما فكر جودت سعيد بشكل خاص، والفكر المادي بوجه عام.

1- قاعدة التغيير الكلية.

2- قاعدة التطور العامة.

وتـمـثل هاتان القــاعــدتان المحور الأساسي الذي تقوم عليه كتب جودت وأفكاره كلـها، وسنـتـناول في هـــذا البحث بعض التطبيقات العملية لقاعدة التغيير، ونرجئ البحث في موضوع التطور إلى حلقات أخرى.

قاعدة التغيير الكلية:

يربط هـذه القاعدة بمفهوم المشيئة ويجعل مشيئة الله تابعة لمشيئة البشر حيث يقول:"كما قـلــب قوله تعالى: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد 11] مفهوم الـنــاس عن التغيير الذي كانوا ينتظرونه من الله، ويرى البشر أنفسهم مثل الطين بيـدي الـخــزاف، تقيدهم الأقدار، قلبت هذه الآية الفكرة رأساً على عقب، فردت عملـيــــة التغيير إلى البشر واعتبرتهم مسؤولين عنها"(4). وفي هذا يقول أيضاً: "قلنا فيما سبق أن الله يـخـلــق الصفات في المادة - ونكمل الموضوع الآن، بأن نبين أن الله يخلق الأفعال من الأفكار.. فمَن تمكَّنَ من معرفة الخواص التي يخلقها الله تعالى في المواد، يمكنه أن يسيطر عليها، كذلك من تمكَّنَ من معرفة الأفعال التي يخلقها الله تعالى مما بالأنفس، يمكن أن يسيطر على المجتمع"(5). وعن هذه الحالة يصف الشيوعيين الماركسيين أنهم: "لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ والقيام بعملية التاريخ"(6).

إن الـتـعـامل مع الإنسان من خلال الأسس المادية - كما يرغب جودت - وقياس خواصه عـلـى خــــواص الـمـادة ؛ وإخضاعه لما تخضع له من قوانين، فيه إغفال لتكريم الإنسان وتميزه عن سائر المـخـلـوقات، ومن خلال هذه المبادئ تعامل النظام الماركسي في روسيا مع الناس وأخـضـعـهم لقوانين قــسـرية كالتي تخضع لها المادة فكان العذاب والشقاء، وكان التنكيل والقتل لمن يرفض هذه القوانين المادية الجائرة التي تُفْرَضَ على الناس بالقوة.

ثم يقول مُبَيِّناً حقيقة التغيير المطلوب:"يفيد أنه يمكن أن توضع في النفس الأفكار ابتداء، كما يمكن أن يرفع ما فيها من مفاهيم، ويوضع فيها أخرى، وهذا أهم ما في عملية التغيير، مــن إنشاء الأمر ابتداء، ومع ذلك أسند الله للبشر هذه القدرة في إزالة المفاهيم واستبدال غيرهـــا بها"(7). كما يقول في أكثر من موضع عن البشر: إن مصائرهم بأيديهم، وكما تلتقي هذه الأفكار مع آراء الماديين الماركسيين، فإنها تلتقي أيضاً مع آراء "فرقة القدرية" المعروفــة في تاريخ علم الكلام، وقد انتصر جودت هنا لأفكار هذه الفرقة، وتعرف هذه الفرقة بمصطلح آخـــر هو "مذهب الاختيار" وذلك في مواجهة "مذهب الجبر" الذي بدأ ينتشر في ذلك العهد، وقد جعل جودت موضوع الصراع يدور حول (الجبر والاختيار) في حرية الإنسان، وأغفل منهج أهل السنة الذي يقوم على إثبات المشيئتين، وتقديم مشيئة الله على مشيئة البـشـــر، وفي هذا يقول ابن تيمية: "أثبت الله "المشيئتين" مشيئة الله ومشيئة العبد، وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب". ثم ذكر ابن تيمية قوله تعالى: ((فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [الإنسان 3](8). وقال ابن تيمية أيضاً: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسـبـاب أن تـكــــون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على سبب من الأسباب، والله ييسر من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة"(9). أي:»أعقلها وتوكل«(10). ومن الممكن أن نلخص الرد على هذا الجانب بمثال عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يشهد لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة في هذا الموضوع، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على هداية عمه أبي طالب وألحَّ في دعواه، حتى نزلت الآية: ((إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ))(11). ولو كان تغيير ما في النفس مما يملكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تأخر عن تغيير ما بنفس عمه من الضلال إلى الهدى. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستطع أن يهدي عمه أو يغير ما في نفسه فكيف يمكن لجودت سعيد أن يجعل مهمة تغيير المشيئة بيد البشر؟ لماذا لم يـقــدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدي عمه؟ هل هذا عن عجز منه، وعدم معرفته بالأفعال التي يخلقها الله تعالى مما بالأنفس؟ أم أنه أغفل سنن التغيير التي اكتشفها جودت سعيد والماركسيون من قبله؟؟..

لن يملك جودت ولا أصحابه الماديون ولا جميع علماء النفس والاجتماع الذين يُعْتَدُّ بهم أن يغيروا ما في قلب إنسان من الهدى إلى الضلال، ولا أن يبدلوا ما في قلب إنسان من الضلال إلى الهدى إلا بمشيئة الله، قال تعالى: ((فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ)) [الشورى 48]، وبحث هذه الـمـسألة سيكون بصورة أشمل في الفصل الخاص بموضوع المشيئة، وإن ما ذكرناه في هذه المقدمـة إنما هو توطئة لبحث جوانب أخرى من قاعدة التغيير.

تغيير مصادر المعرفة:

يقصد بتغيير مصادر المعرفة: تغيير مصادر العلم، يقول ابن تيمية "أصول العلم ثلاثة: الحس والعقل، والخبر المركب منهما ؛ كخبر الأنبياء عن طريق الوحي"، ولكن جودت يجعل مصدر المعرفة في التاريخ وحده، حيث يقول في ندوة تلفزيونية: "اسمحوا لي أن أقول: إن الإسلام يعتبر التاريخ هو مصدر المعرفة، مصدر العلم، وأقول إن سبب انقطاع الوحي - ختم النبوة - بأن التاريخ صار مـصـــدراً للمعرفة، وهذا النظر أعتبره فلسفة جديدة وقديمة في آن واحد، لأن التاريخ، هـــــو الذي إذا شهد لأحدٍ استحق شهادة صحيحة، وإذا شهد على أحد أيضاً فهو الذي يَخْرُجُ من التاريخ.."(12). ويظهر في هذا الحديث - أنه يعتبر وظيفة القرآن قد انتهت، وأن التاريخ هو مصدر المعرفة الذي يُعْتَدُّ به، وأن شهادته ذات اعتبار وتأثير، وبناء على هذا التصور يذكر قاعدة التغيير في مصدر المعرفة، وأنها ليست من القرآن فيقول: "أي: أن الذي سيعلمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون - والتاريخ هي التي ستعلمنا"(13).

تغيير مصادر الأدلة:

لما تقرر عند جودت استبعاد دلالة النصوص الشرعية كمصدر من مصادر المعرفة التي تقدم الحقيقة الموضوعية كان طبيعياً أن يحاول تغيير مصدر الأدلة أيضاً، فعند تفسير قول الله تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ)) [الشورى 17]، يقول: "هذه الآية تنقل أدلة موضوع الفكر الديني الذي تُقَرِّرُهُ آيات الكتاب، تنقل مصدر الأدلة مـــن آيات الـكـتــاب إلى آيات الآفاق والأنفس، وهذه النقلة البعيدة المدى لم تكن البشرية مهيأة لها إلى الآن. وانعدام هذه النقلة أو عدم القدرة على التكيف هو الذي جعل مصدر أدلة العلم والإيمان مختلفة في أذهان العالم المعاصر. فجعلوا الدين غير العلم، وأن مصدر العلم من الواقع، وأن مصدر الدين من الغيب، فهذه الآية بهذه النقلة التاريخية التي لم يقدر البشر على تفهمها، تدمج الدين دمجاً كاملاً في العلم الواقعيِّ في المحيط الإنساني ليكون موضع تأمل الناس "(14). أليس من حقِّ المسلم أن يتساءل إلى أيِّ مدى يريد جودت أن يغير مصادر الأدلة في هذا الدين؟ لو كان هذا التبديل ضرورياً، لَبَيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لنا ذلك، وقد قال الله تعالى له: ((ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) [النحل89].

يبين جودت السبب في جـعـــل الأدلة من خارج القرآن حيث يقول: "هذه الآية ؛ آية الآفاق والأنفس قَلَبَتْ مكان الدليل ومصدره، كما قلبت آية التغيير مفاهيم الناس، فآية الآفاق والأنفس حدَّدَتْ مكان الــدليل ومصدره بأنه ليس الكتاب، فلا نطلب كيف بدأ الخلق من الكتاب، وإنما نطلبه مــــن السير في الأرض والنظر، كما أمر بذلك الكتاب فالحكم في الكتاب، والدليل في الواقع والأرض وآيات الآفاق والأنفس"(15).

من أين جــــــــاء بهذا الحكم الذي يُلغي مكان الدليل في القرآن فيجعله في آيات الآفاق والأنفس، والآية لا تشير إلى هذه الفكرة، وليس لها هذا المنطلق ولا يمكن فهم ذلك الأمر من نصَّها، وقد جعل القرآن آيات الآفاق والأنفس تأكيداً وتوضيحاً، ولم يجعلها تغييراً ونقلاً، والله تعــالى يقول لنا: ((فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَــــــوْمِ الآخِرِ)) [النساء 59]، ثم يأتي جودت سعيد فيقول: ردوه إلى الوجود الخارجي المادي، أو إلى آيات الآفاق - العلوم - وإلى آيات الأنفس - علم النفس - ويجب أن نعلم أن هناك إجماعاً عند المسلمين على أن المرجع عند الاختلاف هو كتاب الله وسنة رسوله، كما أن منهج السلف الصالح هو المعتمد في فهم الكتاب والعمل بالسنة.

إن تقرير هذه النقلة بـهـــذا الأسلوب، يقطع الصلة بين المسلمين ومصدر علمهم ومنهج معرفتهم، كما يفصل بين أحكام الكتاب وبين التطبيق العملي له في واقع الحياة، وهذا يستدعي أن آيات الله تحـتـاج للتزكية والشهادة المستمدة من آيات الآفاق والأنفس كما يصور ذلك جودت.

يقول أصحاب النزعة العقلية: إن العقل هو الذي يشهد بالصدق والقبول لآيات القرآن والسنة، وبهذا جعلوا العقل حَكَماً على الدين، كما يقول محمد إقبال: "ومما لا شك فيه أن للفلسفة الحق في الحكم على الدين"(16). ويقول أصحاب النزعة المادية: إن آيات الكتاب لا تؤدي دوراً، وإنَّ الواقع أو التاريخ وآيات الآفاق والأنفس هي التي تشهد لآيات الله بالصحة والثبات والقبول. وفي هذا يقول جودت: "في القضاء يطلبون البينة والأدلة والشهود، والله يقيم على دينه وكتابه شاهدي عدل، وهما آيات الآفاق والأنفس، وهما شاهدان معتبران لهما حق الشهادة"(17).

وقد يظن البعض أن هذه الشـهــــــادة كما نتصورها - نحن - شهادة تأكيد وتأييد أو من العوامل التي تساعد الناس على فهم آيات الله في القرآن، والاعتبار بها ولكن نلاحظ أنه يجعلها الحَكَمَ على آيات الله، وكأن آيات الله لا تكفي لوحدها لبيان الحقِّ وتقديم العلم. وها هو يقول: "وللمجادل أن يصادر آيـات الكتاب، ولكنه لا يمكنه أن يصادر آيات الافاق والأنفس، فمن هذا الجانب صــار دليل الدين دليلاَ عالمياً إنسانياً علمياً، وليس دليلاً لطائفة معينة من الناس"(18). وبهذا يعطي جودت الحق لأي إنسان في رفض آيات الله ومصادرة معناها باعتبارها ظنية. ويشير إلى ذلك، عند وصفه للمعارف حين كانت ظنية: "حينما كانت المعارف ظنية وتابعة للأهــــواء، ولم تكن تشهد بها آيات الآفاق والنفس وكان النزاع يجري فيها، ولكن حين قـــــامت أدلتها من الآفاق والأنفس تغير الوضع"(19).

وها هو يردد ما بثه المستشرقون في ديار الإسلام في بدايــــــة الغزو الفكري، وزعموا أن النصوص الشرعية ظنية الدلالة ولا تصلح لقيام الحجة والبرهان من خلالها وهذا طَعْنٌ في أصول الدين، ويقول جودت في معرض تحديد مصادر جديدة للمعرفة، وتعيين أصول جديدة للدين: "يذكر إقبال: إن هذه الآية جعلت آيات الآفاق والأنفس مصادر لمعرفة الحق، فكأن هذا القول يظهر شيئاً جديداً في أدلة أصول الـديـن مــــن الكتاب والسنة والقياس والإجماع، وبمقتضى هذه الآية، فإن آيات الآفاق والأنفس لها حق معرفة الحق وكشفه، وهذا الحق كشيء مستنبط من الكتاب لا يؤدي دوراً كبيراً مثل قوله تعالى: ((قُلْ سِيرُوا فِـي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ)) [ العنكبوت 20]، ولكن حين يبدأ الناس يتعلمون كـيــف يتعاملون مع آيات الآفاق والأنفس فإن دلالة آيات الآفاق والأنفس تطلع ضوءاً مبحراً يحق معه أن يقال: طلع الصباح فأطفئ القنديل، ولكن الذين ظلوا طويلاً في الظلام يصيبهم العشي من الضوء الساطع. وقد يرى بعض الناس في هذا الاتجاه خروجاً من الدين وتضييعاً له ولكننا نرى عكس ذلك.."(20). نضع هذا النص الواضح في دلالته على تغيير مـصــــدر أدلة أصول الدين أمام أهل العلم، ونسألهم: هل يمثل هذا الطَّرح خروجاً من الدين أم لا؟!!

وأما قوله: "طـلـع الـصَّـبــاح فأطفئ القنديل" فإنه يمثل سُخرية واضحة للتفريق بين أدلة أصــــول الـديـن، وأدلة اللا أصول الجديدة التي اختارها واعتمد (آيات الآفاق والأنفس) بديلاً جديداً عن الأدلة الصحيحة.

وأخيراً فإن الـطـريـقة التي أعــرض بها آراء اصحاب النزعة المادية ونقدها وإبراز مواضع الانحراف فيها لا تــعـدو أن تكـــون نموذجاً لنقد مناهجهم، فالهجمة على أصول الدين كبيرة وقد هيأ الأعـداء لـهـا من الأساليب والخطط ما يفوق التصور. يقول محمد أركون في معرض حديث عن مـواجـهـة الذين لا يزالــون متمسكين بالنصوص الشرعية: "نحتاج إلى مائة مؤسسة وثلاثين سنة للتمكن من زحزحة المسلمين عن التمسك بحرفية النصوص..".

المراجع:

1- كتاب "اقرأ وربك الأكرم"،جودت سعيد،ص 226.

2- المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ص 129، من الترجمة العربية (منشورات دار دمشق).

3- المؤلفات الكاملة، لينين 14/132.

4- كتاب: "اقرأ وربك الأكرم"، ص 218.

5- كتاب: "حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ص 77.

6- كتاب: "اقرأ وربك الأكرم"، ص 219.

7- كتاب: "حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ص 59.

8- الفتاوى الكبرى لابن تيمية، 8/238.

9- المصدر السابق، 8/528.

10- أخرجه الترمذي (2649)، بإسناد حسن عن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

11- راجع القصة في فتح الباري.

12- ذكر هذا الكلام خلال ندوة في التلفزيون السوري بالاشتراك مع الدكتور الكردي محمد سعيد رمضان البوطي، لمواجهة موضوع الصحوة الإسلامية.

13- رسالة انظروا، اللغة والواقع، جودت سعيد ص 8.

14- كتاب: "اقرأ وربك الأكرم"، ص 217.

15- كتاب: "اقرأ وربك الأكرم"، ص 221.

16- كتاب: "تجديد الفكر الديني" ، محمد إقبال، ص 7.

17- كتاب: "اقرأ وربك الأكرم"، ص 221.

18- كتاب: "اقرأ وربك الأكرم"، ص 222.

19- كتاب: "اقرأ وربك الأكرم"، ص 222.

20- كتاب: "اقرأ وربك الأكرم"، ص 223.

 


المقالة الرابعة

مفهوم العقيدة:

لم يـتـنـاول جــودت موضوع العقيدة في بحث مستقل ولم يحدد مفهومها بناءً على المنهج الإسلامي، وإنـمـــا كانت مباحثتها متناثرة، وكان له فيها فهم خاص يتلاءم مع أصول المذهب المادي، وقد أظهر في هذا المجال مصطلحات جديدة وغريبة، ولكنها تلتقي مع آراء الفرق الـضـالـة وتبتعد عن منهج السلف الصالح. وقد أظهر هذه الآراء عندما تعرض لتعريف الإيمان وجعله مرتبطاً بالحقائق الخارجية المادية، حيث قال: "والإيمان ليس مجرد إيمان وإنما توحيد، أي الإنـسـان مـرتبـطـاً بالحقائق الخارجية وتحريره من عالم الأشخاص والصور الذهنية"(1).

وينطلق جودت من مفهوم حسي للغيب حيث يقول: "وهكذا يصبح الغيب علماً، عندما تكــون طـريقـة إيمـانـنـا بالقيم السماوية كإيماننا بأي شيء محسوس "(2). ثم يربط بين الإيمان ونتائج الأسباب فـي عـالـم الـواقـع سلباً وإيجاباً فيقول: "إذا أدركنا معنى ربط الأسباب بالنتائج، وأنها ليست عقلية وإنما مشاهدية، نستطيع أن نربط الإيمان بالنتائج فإذا شاهدنا الإيمان ونتائجه، جعلنا شروط العلم بكل محتوياته في موضوع الإيمان"(3).

ثم يجعل للعلم - الذي وضع له شروطاً حسية - سلطاناً على دين الله حين يقول: "كما بسط العلم سلطانه على الفلك والكيمياء والطب فسيبسط سلطانه أيضاً على الدين"(4).

ومما لا شك فيه عـنـد الـمـسلمين جميعاً أن العقيدة لا تؤخذ إلا من مصدر واحد هو طريق الوحي، طريق النبوة. قال تعالى: ((وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولا الإيمَانُ ولَكِن جـَـعَـلْـنَــاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَذِي لَـهُ مَــا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ)) [الشورى 54].

لـقــد قرن جودت مفهوم التوحيد بالوقائع الخارجية المادية، كما أخضعه إلى مرحلية تاريخـيـــة عند قوله: "إن العلماء يشكون من أن العلم كَمَلكة في البشر وكمعرفة لكنهه وتعميمه محدود الانتشار بين الناس، كما أن ظهوره بين البشر تاريخياً محدود أيضاً، وحديث النشأة، إن التوحيد في مبدئه ومنتهاه إنما هو إيقاظ ملكة العلم"(5).

ثم يظهر المفهوم المادي لتوحيد الله عندما يقول: "وتوحيد الله يأمر بالنظر إلى الوقائع الخــارجـيــــة للاتصال بالحقائق الخارجية وإعطاء معنى أقدس لظاهرة الكون كعملية إبداع"(6). ثـم يـصـل جودت سعيد إلى الهدف الأساسي من بحث التوحيد والعلم إلى النتيجة النهائية في تعريف الإيمان: "يصبح العلم في نهاية الأمر هو الإيمان، والإيمان هو العلم والشرك هو الجهل، والجهل هو الشرك"(7). وتعتبر هذه التعريفات غريبة على العقيدة الإسلامية، ولـيـس مــن الصعوبة إيجاد المصادر المستمدة منها، فإن سجل الفرق الكلامية الضالة حافل بمثل هذه الآراء، ومثال ذلك قول الجهم بن صفوان: "الإيمان هو المعرفة، والكفر هو الجهل".

قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الإيمان بما لا يدع مجالاً للجدل والانحراف وذلك في حديث جبريل المشهور حين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان: "قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت"(8)، ولكن جودت سعيد تأثر بالمنهج المادي، حتى لم يعد عنده للغيب اعتبار، وقد قال تعالى: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [البقرة 3].

لـقــد قاده هذا الفهم إلى أن يجعل للبشر سلطاناً على تصور وجود الروح من خلال كشف السنن فقال: "هذا الوجود السنني هو نوع آخر من مراتب الوجود، وربما يكون مدخلاً لتصور وجود الروح، والله تعالى له الخلق والأمر والروح من أمر الله، ((قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)) [ الإسـراء 85]. وأمر الله، وكلمة الله،وسنة الله ألفاظ قد تكون متقاربة في مدلولها، ولكن سنة الله قد توصف بأنها لا تتبدل ولا تتحول"(9).

مصطلحات الاعتقاد:

يسخر جودت من الـمـسـلمين حين يعظمون التشكك بالاعتقاد فيقول: "ولكن السلوك هو الكافر (من ترك الصلاة فـقد كفر) والمسلمون عكسوا القضية فعظموا التشكيك في الاعتقاد، وتهاونوا بالتقصير بالأعـمـــال"(10). صحيح أن بعض الفرق تهاونوا بالأعمال ولكن من الخطورة بمـكــان كـبـيـر تعـمـيــم هذه القاعدة ومحاولة عكس مفهوم عقيدة أهل السنة والجماعة، للمصطلحات الشرعية (الإيمان، والشرك، والكفر) حيث يعتمد المسلمون في تحديدها على منهج القرآن، قال تعالى: (إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْماً عَظِيماً)) [النساء 48]. ومنهج أهل السنة في هذه المسألة واضح من خلال قولهم المشهور: "ولا نكفر أحداً من أهــل القـبـلـة بذنــب ما لم يستحله"(11). والاستحلال أمر اعتقادي قلبي، وقد تَبَنَّى الخوارج هذا المنهج واعتبروا مرتكب الكبيرة - المعصية أو السلوك - كافراً حتى تجرأ هؤلاء على تكفير الصـحــابـة وتطـبيق الأحكام الخاصة بالكافرين في حق المسلمين. وقد ذكر جودت مذهبي الجبرية والقدرية ولم يذكــر الرأي الصحيح وهو ما عليه أهل السنة والجماعة إذ يقول: "ومن أسـبـاب جـعــل السلوك البشري خارج العلم وخارج السيطرة عليه أمران: أولاً: فهم العقيدة الدينية فهماً خاطئاً، وهو أن الله يفعل ما يشاء ((ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ...)) [ التكوير 29] وتاريخ النزاع طويل بين الذين يرون الجبرية في سلوك البشر، وبـيـن مـن يرون الانسان مخيراً في سلوكه"(12). وظاهر كلامه الانتصار لمذهب المعتزلة الذين يرون أن للإنـســان مشيئته التامة دون ربطها بمشيئة الله، ويجعلون عقولهم الحكم على أمر الله، فيقولون: يجب على الله.. كذا بناءاً على تصوراتهم البشرية عن الحكمة والعدل، وهذه النظرة للاعتقاد تحمل جودت على القول: أن الاعتقاد خاضع لعمليات الضبط والتصحيح وذلك حين يقول: "إذا كان عالم الأشخاص يقدم لنا العلم والتوحيد إلا أن العلم والتوحيد لا بد أن تجري فيهما دائماً عمليات التصحيح والضبط "(13).

كيف بدأ الخلق:

لبيان موقف جودت من موضوعات الخلق نجده يلجأ إلى فكرة إعادة النظر فيما تعتقده الأمة بموضوع كيف بدأ الخلق، وعند تفسير قوله تعالى: ((قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ)) [العنكبوت 20]. يقول: "تحتوي هذه الآية الكريمة على منهج محدد للبحث يشمل جوانب العالم المادية وغير المادية، الـجـواهــر والأعــــراض حسب تعبير الأقدمين، فالموضوع يشمل كل الكائنات من الذرة وما دونها من الصـفـــر إلى المجرة بل عموم الكون من المواد العضوية إلى الإنسان الذي هو في أحسن تقويم، عـضــويـاً وفكرياً واجتماعياً، ومن الأفكار الأولية التي أعقدها"(14).

وعن السبب في تبني هذا المنهج يقول جودت: "أن معرفة كيف بدأ الخلق وفهم الأمور على هذا المستوى، ينبه الإنسان إلى أن الخلق قد ينمو ويتحسن لأن من عرف كيف بدأ الخلق ضعيفاً وعاجزاً ثم نما نمواً بطيئاً وأن هذا النمو اقتضى دهوراً طويلة، فقد يقوده الـتـأمــل في بدء الخلق إلى التفكير في مصير الخلق"(15)، ثم يبين جودت الأمور التي تخضع للبحث وعدد بعضها، فقال: "وعلى مقتضى هذه الآية ينبغي أن يذكر في مقدمة كل مـوضــوع كيف بدأ خلقه، حتى ما يتعلق بطريقة الإيمان بالله: كيف بدأ الإنسان يدرك معنى الألوهية، إذن كل موضوع له بدء خلق بالنسبة لدخوله إلى إدراك الإنسان، وبمقتضى مـا تـطـلـبــه الآيــة يـنـبـغـي أن نعيد النظر في كل ما نراه من حيث كيف بدأ خلقه"(16).

إن إعادة النظر هذه وإعادة البحث في أمور اعتقادية مقررة في النصوص الشرعية، يعتبر خروجاً على هذه النصوص وتعطيلاً لمضمونها، وإن الخطر لا يكمن لمجرد إعادة النظر في هــذه القضايا فحسب وإنما في تغيير مكان الدليل، ومكان هذا العلم، ويقول: "إن هذه الآيــة تنقل موضوع بحث معرفة كيف بدأ الخلق، من آيات كتاب الله إلى آيات الآفاق والأنفس والسير في الأرض"(17).

ما هي الحاجة الملحة التي يراها جودت لإعادة النظر بالمعارف التي يتضمنها كتاب الله أو سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟

نـسـتـطـيـع أن نشير إلى موضوعين هامين يطلب جودت فيهما إعادة النظر وتغيير الاعتقاد السابق، وهما بداية الإيمان بالله، وخلق الإنسان، فكيف خلق الله الإنسان؟ من لا يعرف كيف خلق الله الإنسان؟

إن الطفل الصغير ليدرك هذه الحقيقة.. إن الله خلق الإنسان من تراب فقد قال تعالى: ((إن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ)) [الحج:5]. وقال أيضاً: ((قال: يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) [ص:75]. ثم يبين الله كيف بدأ الخلق: ((الَّذِي أَحْـسَـنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ)) [السجدة:7]. لقد بين الله تعالى لنا بطريـقـة واضحة كيف بدأ خلق الإنسان، الخلق والمادة التي كان منها الخلق، وتفصيلات عن طريقة الخلق، فلماذا نبحث هذه القضية في مصدر آخر؟ وما حقيقة أن نطلب تعديل ما هو مقرر في كتاب الله؟ أليس في ذلك نفي لقدرة النصوص الشرعية، على تقديم المعرفة العـلـمـيــة الصـحـيحة؟ ولقد فصل القرآن كل شيء عن خلق الإنسان، ولا نحتاج إلى تلقي هذه المعلومات من مصادر أخرى.

لقد خالف جودت إجماع المسلمين في تلقي النصوص الشرعية والعمل بها والتحاكم إليها عند التنازع والرضا التام بما يصدر عنها، ولئن لم يعتقد جودت بتلقي، كيف بدأ الخلق من الكتاب والسنة فمن أين يحصــل عليها؟ هل نعود في ذلك إلى الذين ساروا في الأرض وقاموا بالحفريات ثم قالوا بنظرية النشوء والارتقاء، أو الانتخاب الطبيعي، أو الصفات المكتسبة، وقد دحض العلماء هذه النظريات وكذبوها، ولكن جودت لا يزال يلمح إليها في كل مناسبة، رغم أنه لا يؤمن إلا بما يصدر عن الواقع والأمر الحسي إلا أنه في موضوع التطور يتخلى عن منهجه المادي قليلاً ليقول بلغة التخيل: "لو تيسر للإنسان أن يراقب فكرياً وضع الكرة الأرضية ونشوء الحياة فيها وأنواع الحيوان التي عاشت عليها، وأنها يوماً ما كانت الحياة كلها في الماء، ثم صارت في اليابسة ثم وجد الإنسان، لماذا لا يخطر لنا أن هذا الخلق لا يزال مستمراً؟ لماذا لا يخطر لنا أن الخلق لم يتوقف ولا يزال يخلق، ويزاد في الخلق وأن هناك نشأة أخرى؟؟"(18). يقـصـد النشأة في الحياة الدنيا أو الانسان المتفوق (السوبرمان)(*) ثم يقول بأسلوب الـسـخـريــة مــن المسلمين: "إن التاريخ سيضطر المسلمين أن يغيروا فهمهم للقرآن، لهذا يقفون من التاريخ موقفاً سلبياً"(19).

كيف أدرك الإنسان الألوهية؟

إن طلب جودت إعادة النظر بموضوع كيف بدأ الإنسان يدرك معنى الألوهية، وكيف كان الإيمان بالله، وكيف نتلقي هذا الأمر من خارج القرآن الكريم؟ تلك أمور تحتاج إلى وقفة مع جودت، وذلك لأن موضوع إدارك الإنسان الأول - آدم عليه السلام - لمعنى الألوهية لم يكن موضوع اختلاف بين المسلمين، لأن هذه الحقيقة واضحة عندهم، ولا تغيب عنهم، وهم يـتـلـقـونـها من كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأما ميدان هـــذه البحوث والجدل القائم حولها فهو لدى علماء الاجتماع الوضعيين، الذين يرفضون تـلـقـي هذه العقيدة من مصدر الوحي، ويظهر أن جودت قد انحاز إلى رأيهم وتبني منهجهم في هذه القضية، وأصبح يدعو لإعادة النظــر فيها، وهو يؤمن كما يؤمنون بمراحل التاريخ وتقسيماته، إذ يقول جودت عن التاريخ: "قطع الإنسان فيه مراحل ومراحل حين خرج من حياة الصيد إلى الرعي إلى الزراعة، إن تقـسـيـم تاريـخ البشر إلى عصور حجرية وقديمة وحديثة وعصر البرونز والحديد كل ذلك يدل على: كـيـف بـدأ الـخـلـق والـعـلـم وخلــق السـيـطـرة والتسخير"(20).

ولا يشك المسلمون - كما يفعل علماء الاجتماع - بأن آدم -عليه السلام- كان نبياً وكان موحداً خالصاً، وأنه تلقى عقيدة التوحيد من الله تعالى: ((إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ)) [آل عمران 33]. وقال تعالى يصف توبة آدم: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))[البقرة 37].

هــذا هــو مـنـهــج آدم ومـنـهج الأنبياء من بعده، وكلما أتى على هذا المنهج طارئ من المعتقدات المنحرفة، كان يستدعي إرسال رسول جديد. وظن أصحاب التوجه المادي أن هذه الانحرافات في تاريخ البشر، هي تطور في تاريخ العقيدة، فوضعوا على أساس هذا الفهم الخاطئ تـصـــورات عن تطور مفهوم هذه الألوهية، من التعددية إلى التثليث إلى الثنائية إلى التوحيد، وأنكروا أن يكون أول البشر مهتدياً موحداً، وظهرت عند بعض المسلمين هذه الأفكار واستخدموا عبارات علماء الاجتماع الوضعية ذاتها، مثل قولهم: الأديان العليا، والأديــان السفلى، كما جاء عند جودت في كتاب اقرأ: "لهذا اعتبر توينبي الحضارات نكوصـــاً عن الأديان العليا، فالأديان العليا إنسانية وسمو.."(21)، والقرآن يرد هذا الافتراء حـيــث يقــول الله تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [البقرة 213].

- يتبع -

المراجع:

*- إن الفيلسوف الألماني الملحد نيتشه قد روج لنظرية (السوبرمان) في كتابه: هكذا تكلم زرادشت.- البيان -

1- كتاب "اقرأ وربك الأكرم"، جودت سعيد ص 117.

2- المصدر السابق ص 116.

3- المصدر السابق ص 119.

4- المصدر السابق ص 120.

5-7- المصدر السابق ص 117.

8- جزء من حديث طويل عن عمر أخرجه البخاري "باب الإيمان"، حديث 50 ومسلم 1/1.

9- كتاب "اقرأ وربك الأكرم"، ص 93، ذكرت هذه الفقرة بالعدد 64 ص 28.

10- المصدر السابق ص 116.

11- العقيدة الطحاوية ص 316.

12- كتاب "اقرأ وربك الأكرم"، ص 87.

13- المصدر السابق ص 204.

14- المصدر السابق ص 209.

15- المصدر السابق ص 212.

16- المصدر السابق ص 210.

17- المصدر السابق ص 215.

18-19- رسالة انظروا 40 اللغة والواقع ص 10.

20- كتاب اقرأ ص 90.

21- المصدر السابق ص 193.