الرد المفحم، على من خالف العلماء و تشدد و تعصب، و ألزم المرأة بستر وجهها و كفيها وأوجب، و لم يقتنع بقولهم: إنه سنة و مستحب

للشيخ محدث الشام ناصر الدين الألباني –رحمه الله–

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة المؤلف

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102)، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنَّ الله كان عليكم رقيباً} (النساء: 1)، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب:70-71).

 

أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

وبعد، فلما عزمت على إعادة طبع كتابي"حجاب المرأة المسلمة"- بعد أن مضى عليه عدة سنين، وطبع عدة طبعات تصويراً بالأوفست- رأيت أنه لا بد لي من إعادة النظر فيه لعلِّي ألهم أن أضيف إليه فوائد جديدة، علاوة على ما كان توفر لديَّ منها مع مضي الزمان، ووضعت كل شيء منها في نسختي موضعها فيه على مرِّ الأيام، وأصحح ما لا بد منه من الأخطاء المطبعية أو الفكرية التي لا يكاد ينجو من مثلها كتاب، وعُنيتُ عناية خاصة بمطالعة ما كان تجمع لدي من الكتب والرسائل المؤلفة في هذا العصر حول المرأة- وهي بالعشرات- فوجدت أكثرها قد تتابعت في الرَّد عليَّ، بعضها مباشرة باسم الكتاب ومؤلفه، وبعضها على المسألة مباشرة دون التعرُّض لشخصي، وهي التي زعم أحد الدكاترة أنني تفردت بالقول بها دون مَن قبلي من علماء السلف والخلف، ألا وهي: أن وجه المرأة ليس بعورة ولا يجب عليها ستره!

 

ولقد رأيت- والله- العجب العجاب، من اجتماعهم على القول بالوجوب، وتقليد بعضهم لبعض في ذلك، وفي طريقة الاستدلال بما لا يصح من الأدلة رواية أو دراية، وتأويلهم للنصوص المخالفة لهم من الآثار السلفية، والأقوال المشهورة لبعض الأئمة المتبوعين، وتجاهلهم لها، كأنها لم تكن شيئاً مذكوراً! الأمر الذي جعلني أشعر أنهم جميعاً- مع الأسف- قد كتبوا ما كتبوا مستسلمين للعواطف البشرية، والاندفاعات الشخصية، والتقاليد البلدية، وليس استسلاماً للأدلة الشرعية، لأن ما ذكروه من الأدلة- على مذهبهم- هم يعلمون جيداً أنها لم تكن خافية علىَّ، لأنهم رأوها في كتابي مع الجواب عنها، والاستدلال بما يعارضها، وهو أصح عندنا من استدلالاتهم التي تشبَّثوا بها، كما أنهم يعلمون أنني لا أنكر مشروعيَّته.

 

البحوث:

 

ولكن لا بد من الإشارة إلى أهم البحوث التي تناولها في المقدمة المشار إليها، مع تلخيص الكلام فيها قدر الاستطاعة، فأقول:

 

 

 

 

 

 

 

البحث الأول: آية الجلباب: {... يدنين عليهن من جلابيبهن} (الأحزاب: 95).

 

1- يصرُّ المخالفون المتشددون على المرأة- وفي مقدمتهم الشيخ محمود التويجري حفظه الله- على أن معنى { يدنين}: يغطِّن وجوههن، وهو خلاف معنى أصل هذه الكلمة: " الإدناء" لغة، وهو التقريب، كما كنت ذكرت ذلك وشرحته في الكتاب- وكما سيأتي في محله منه- وبينت أنه ليس نصّاً في تغطية الوجه، وأن على المخالفين أن يأتوا بما يرجِّح ما ذهبوا إليه، وذلك مما لم يفعلوا، ولن يفعلوا، إلا الطعن على من خالفهم ممن تبع سلف الأمة ومفسريهم وعلماءهم. وهذا هو الإمام الراغب الأصبهاني يقول في " المفردات":

 

" (دنا)، الدنو: القرب… ويقال: دانيت بين الأمرين وأدنيت أحدهما من الآخر …"، ثم ذكر الآية. وبذلك فسرها ترجمان القرآن عبد الله بن عباس فيما صح عنه، فقال:: "تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به"، كما سيأتي تخريجه.

 

وهذا هو الشيخ التويجري- هدانا الله وإياه- يقول في آخر كتابه المذكور (249):

 

" ومن أباح السفور للنساء- (يعني: سفور الوجه فقط) - واستدل على ذلك بمثل ما استدل به الألباني، فقد فتح باب التبرُّج على مصراعيه، وجرّأ النساء على ارتكاب الأفعال الذميمة التي تفعلها السافرات الآن" !

 

كذا قال – أصلحه الله وهداه- فإن هذا التهجم والطعن لا ينالني أنا وحدي، بل يصيب أيضاً الذين هم قدوتي وسلفي من الصحابة والتابعين والمفسرين والفقهاء وغيرهم- ممن ذكرناهم في الكتاب- كما سيأتي، وفي المقدمة المشار إليها أيضاً، وحسبي منها الآن مثالاً واحداً، وهو ما جاء في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد ابن حنبل" للشيخ علاء الدين المرداوي (1/452)، قال:

 

" الصحيح من المذهب أن الوجه ليس من العورة".

 

ثم ذكر مثله في الكفين، وهو اختيار ابن قدامة المقدسي في " المغني" 1/637)، واستدل لاختياره بنهيه صلى الله عليه وسلم المحرمة عن لبس القفازين" لو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء".

 

وهو الذي اعتمده وجزم به في كتابه" العمدة" (66).

 

فما رأي الشيخ التويجري بهذا النص من هذا الإمام الحنبلي الجليل؟! أتظنُّه داعية للسفور أيضاً، وفاتحاً لباب التبرج على مصراعيه،و …؟!

 

ألا يخشى الشيخ أن يحيط به وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما تبين فيها، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب".

 

أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو مخرج في " الصحيحة" (2/540).

 

ولو أن الشيخ- هداه الله- قدَّم رأيه للناس ودافع بالأدلة الشرعية الصحيحة لقلنا: مرحباً به، أم أخطأ. أما أن يسلِّط " صارمة" على من خالفه في رأيه، ويطعن به حتى على القوارير- التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بهن- لمجرد أنهنَّ خالفنه، واتَّبعن الصحيح من "مذهبه" ! الذي أعرض عنه لهوسٍ غلب عليه ! فهذه مصيبة أخلاقية، ومخالفة أخرى مذهبية، فقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:

 

" لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحث الثاني: يزعم كثير من المخالفين المتشددين: أن (الجلباب) المأمور به في آية الأحزاب هو معنى (الحجاب) المذكور في الآية الأخرى: { فاسألوهن من وراء حجاب} (الأحزاب: 53)، وهذا خلط عجيب، حملهم عليه علمهم بأن الآية الأولى لا دليل فيها على أن الوجه والكفين عورة، بخلاف الأخرى، فإنها في المرأة وهي في دارها، إذ إنها لا تكون عادة متجلببة ولا مختمرة فيها، فلا تبرز للسائل، خلافاً لما يفعل بعضهن اليوم ممن لا أخلاق لهن، وقد نبَّه على هذا الفرق شيخ الإسلام ابن تميمة فقال في " الفتاوى" (15/448):

 

" فآية الجلابيب في الأدرية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن".

 

قلت: فليس في أي من الآيتين ما يدل على وجوب ستر الوجه والكفين.

 

أما الأولى فلأن الجلباب هو الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها- وليس على وجهها- كما هو مذكور فيما يأتي من الكتاب (ص83)، وعلى هذا كتب اللغة قاطبة، ليس في شيء منها ذكر للوجه البتة.

 

وقد صح عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها:

 

" تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به".

 

أخرجه أبو داود في " مسائله" (ص 110)، وما خالفه إما شاذ أو ضعيف، والتفصيل في تلك المقدمة.

 

وأما الآية الأخرى، فلما ذكرت آنفاً.

 

ولهذا، فقد بدا لي أن اجعل عنوان الكتاب: "جلباب المرأة…"، لأنه ألصق بموضوع الكتاب كما هو ظاهر. والله تعالى ولي التوفيق.

 

 

 

 

 

 

 

البحث الثالث: ومن تناقضهم، أنهم- في الوقت الذي يوجبون على المرأة أن تستر وجهها- يجيزون لها أن تكشف عن عينها اليسرى وتسامح بعضهم فقال: بالعينين كلتيهما ! بناء على بعض الآثار الواهية التي منها حديث لبن عباس الآتي في الكتاب (ص 88)، وروي عنه ما يناقضه بلفظ:

 

" وإدناء الجلباب أن تقنّع وتشده على جبينها". وهذا نص قولنا: إنه لا يشمل الوجه. ولذلك كتمه كل المخالفين، ولم يتعرضوا له بذكر! وهو ضعيف السند، لكن له شواهد كما يأتي، ولقد صدق من قال: أهل السنة يذكرون ما عليهم، وأهل الأهواء يذكرون ما لهم ولا يذكرون ما عليهم! ومن ذلك أن الشيخ عبد القادر السندي كتم في رسالته " الحجاب" إحدى علَّتي أثر ابن عباس الأول، وهوَّن من شأن الأخرى (ص19-20) ! واغترَّ به مؤلف " يا فتاة الإسلام" فصرح (ص 252) بصحته! وكذا صححه مؤلف" فقه النظر في الإسلام" (ص65) !

 

وأسوأ من ذلك ما فعله المسمى ب (درويش) فيما سماه ب "فصل الخطاب" حيث غيَّر إسناده، فجعله في موضعين منه (46-82) من رواية محمد بن سيرين عن ابن عباس. وهو محض افتراء! لا أصل له من هذه الرواية، ولا أدري إذا كان هذا منه عن عمد أو سهو؟! وكنت أود أن لا أميل إلى الأول منهما، لولا أنني رأيت له فرية أخرى (ص82)، لعلّي أنبِّه عليها في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.

 

ويبدو لي أنهم- لشعورهم في قرارة نفوسهم بضعف حجتهم- يلجؤون إلى استعمال الرأي ولغة العواطف- أو ما يشبه الفلسفة- فيقولون: إن أجمل ما في المرأة وجهها، فمن غير المعقول أن يجوز لها أن تكشف عنه! فقيل لهم: وأجمل ما في الوجه العينان، فعمّوها إذن، ومروها أن تسترهما بجلبابها! وقيل لهم على طريق المعارضة: وأجمل ما في الرجل- بالنسبة للمرأة- وجهه، فمروا الرجال أيضاً- بفلسفتكم هذه أن يستروا وجوههم أيضاً أمام النساء، وبخاصة من كان منهم بارع الجمال، كما ورد في ترجمة أبي الحسن الواعظ المعروف بـ (المصري): "انه كان له مجلس يتكلم فيه ويعظ، وكان يحضر مجلس وعظه رجال ونساء، فكان يجعل على وجهه برقعاً تخوّفاً أن يفتتن به النساء من حسن وجهه". " تاريخ بغداد" (12/75-76).

 

 

فماذا يقول فضيلة الشيخ التويجري- ومن يجري وراءه من المتفلسفين- أمشروع ما فعله هذا المصري أم لا؟! مع علمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجمل منه ولم يفعل فعله! فإن قلتم بشرعيته، خالفتم سنة نبيكم وضللتم، وهذا مما لا نرجوه لكم، وإن قلتم بعدمها- كما هو الظن بكم- أصبتم، وبطلت فلسفتكم، ولزمكم الرجوع عنها، والاكتفاء في ردكم عليّ بالأدلة الشرعية إن كانت عندكم فإنَّها تغنيكم عن زخرف القول، وإلا حشرتم أنفسكم في (الآرائيين) ! كما روى أحمد في " العلل" (2/246) عن حماد بن سلمة قال:

 

" إن أبا حنيفة استقبل الآثار والسنن يردُّها برأيه"!

 

 

 

 

 

 

 

البحث الرابع: الخمار والاعتجار، قوله تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهم}.

 

ذكرنا فيما يأتي من الكتاب (ص 72) أن الخمار: غطاء الرأس فقط دون الوجه، واستشهدت على ذلك بكلام بعض العلماء: كابن الأثير وابن كثير، فأبى ذلك الشيخ التويجري- ومن تبعه من المذهبيين والمقلدين- وأصر على أنه يشمل الوجه أيضاً، وكرر ذلك في غير موضع، وتشبّث في ذلك ببعض الأقوال التي لا تعدو أن تكون من باب زلة عالم، أو سبق قلم، أو في أحسن الأحوال تفسير مراد وليس تفسير لفظ، مما لا ينبغي الاعتماد عليه في محل النزاع والخلاف، وفي الوقت نفسه أعرض عن الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء والأئمة من المفسرين والمحدثين والفقهاء واللغويين المخالفة له، وبعضها مما جاء في كتابه هو نفسه، ولكنه مر عليها وكتم دلالتها مع الأسف الشديد.

 

من ذلك أنه لما ساق آية: { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن…} (النور:60) الآية، وتكلم عليها في نحو صفحتين (161-163) بكلام مفيد، ولكنه لم يوضح لقرائه ما هو المقصود من النقول التي ذكرها في تفسير: { ثيابهن} بأنها الجلباب، ومنها قوله:

 

" وقال أبو صالح: تضع الجلباب، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار. وقال سعيد بن جبير: فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق ".

 

وبهذا صرَّح جمع من الحنابلة وغيرهم، فذكر ابن الجوزي في " زاد المسير" (6/36) عن أبي يعلى- يعني: القاضي الحنبلي- أنه قال:

 

" وفي هذه الآية دلالة على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال".

 

ونحوه في " أحكام القرآن" للحصاص (3/334)، وأشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في " تفسير سورة النور" (ص 57) ونقله التويجري (ص 167) محتجاً به، وهذا كله يدل على أن هؤلاء الأفاضل من علماء السلف والخلف يرون أن الخمار لا يستر الوجه، وإنما الرأس فقط كما هو قولنا، ومن يتأمل في بعض أجوبة الشيخ التكلفة يتأكد من أنه يرى ذلك معنا، ولكنه يجادل ويكابر ويتكتم، فانظر مثلاً جوابه عن حديث جابر الآتي في الكتاب (ص 60) وفيه:" أنه رأى امرأة سفعاء الخدين".

 

فأجاب الشيخ (ص 208) باحتمال أن " تلك المرأة كانت من القواعد… " ! يعني: فكشف وجهها مباح، كما صرَّح به الشيخ ابن عثيمين في" رسالته" (ص 32)، وأما التويجري، فيلغز ويعمي ولا يفصح لقرائه، فهل يصح هذا الجواب من الشيخ، وهو يصر على أن الخمار يستر الوجه أيضاً؟! فاللهم! هداك.

 

واعلم أن المقصود من ذكر آية (القواعد) هذه، إنما هو إقامة الحجة على الشيخ بما تبناه لـ (القاعد) أن تظهر بخمارها" بحضرة الرجال الأجانب" يرون وجهها، ومعنى ذلك عندهم- الشيخ تبع لهم في ذلك- أن الخمار لغة لا يستر الوجه، وهذا وحده يكفي حجة على الشيخ هداه الله تعالى، فكيف إذا انضم إلى ذلك ما سيأتي من السنة وأقوال العلماء في كل علم، فيكون الشيخ مخالفاً لإجماعهم ومتَّبعاً غير سبيلهم؟!

 

أقول هذا لكي أذكِّر بأن هناك قولاً آخر في تفسير: { ثيابهنَّ) - كنت ذكرته في محله من الكتاب- وهو الخمار، وهو الأصح عن ابن عباس كما سيأتي (ص 110- 111)، وقد كتم الشيخ هذا القول كعادته فيما لا يوافق هواه، خلافاً لأهل السنة الذين يذكرون ما لهم وما عليهم كما تقدم، وإذ قد اختار هو القول الأول وهو (الجلباب)، لزمه القول بأن (الخمار) لا يستر الوجه، وهو المراد.

 

واختار ابن القطان الفاسي في" النظر في أحكام النظر" القول الآخر، فقال (ق 35/2):

 

"الثياب المذكورة هي الخمار والجلباب، رُخِّص لها أن تخرج دونهما وتبدو للرجال… وهذا قول ربيعة بن عبد الرحمن. وهذا هو الأظهر، فإن الآية إنما رخصت في وضع ثوب إن وضعته ذات زينة أمكن أن تتبرج…" إلى آخر كلامه، وهو نفيس جداً، ولولا أن المجال لا يتحمل التوسع لنقلته برمَّته،فإني لم أره لغيره.

 

وأما مخالفته للسنة فهي كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:

 

" لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار".

 

وهو حديث صحيح مخرج في " الإرواء" (196) برواية جمع، منهم ابن خزيمة، وابن حبَّان في " صحيحيهما".

 

فهل يقول الشيخ بأنه يجب على المرأة البالغة أن تستر وجهها في الصلاة؟!

 

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في المرأة التي نذرت أن تحج حاسرة:

 

" ومرورها فلتركب، ولتختمر، ولتحج".

 

وفي الرواية:" وتغطي شعرها".

 

وهو صحيح أيضاً خرجته في "الأحاديث الصحيحة" (2930).

 

فهل يجيز الشيخ للمحرمة أن تضرب بخمارها على وجهها وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تتنقب المرأة المحرمة …؟!ومثل ذلك أحاديث المسح على الخمار في الوضوء فعلاً منه صلى الله عليه وسلم وأمراً، رجالاً ونساء، فمن ذا الذي يقول بقول الشيخ المخالف للقرآن والسنة وأقوال العلماء أيضاً، كما تقدم في تفسير آية القواعد؟! ولدينا مزيد كما يأتي.

 

ومن ذلك قول العلامة الزبيدي في" شرح القاموس" (3/ 189) في قول أم سلمة رضي الله عنهما: إنها كانت تمسح على الخمار. أخرجه ابن أبي شبيبة في " المصنف" (1/22):

 

" وأرادت ب (الخمار): العمامة، لأن الرجل يغطي بها رأسه، كما أن المرأة تغطيه بخمارها". وكذا في " لسان العرب".

 

وفي "المعجم الوسيط" – تأليف لجنة من العلماء تحت إشراف" مجمع اللغة العربية" – ما نصه:

 

" الخمار: كل ما ستر ومنه خمار المرأة، وهو ثوب تغطي به رأسها، ومنه العمامة، لان الرجل يغطي بها رأسه، ويديرها تحت الحنك".

 

فهذه نصوص صريحة من هؤلاء العلماء على أن الخمار بالنسبة للمرأة كالعمامة بالنسبة للرجل، فكما أن العمامة عند إطلاقها لا تعني تغطية وجه الرجل، فكذلك الخمار عند إطلاقه لا يعني تغطية وجه المرأة به.

 

وعلى هذا جرى العلماء على اختلاف اختصاصاتهم من: المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، واللغويين، وغيرهم، سلفاً وخلفاً، وقد تيسر لي الوقوف على كلمات أكثر من أربعين واحداً منهم، ذكرت نصوصها في البحث المشار إليه في المقدمة، وقد أجمعت كلها على ذكر الرأس دون الوجه في تعريفهم للخمار، أفهؤلاء الأساطين- أيها الشيخ!- مخطئون- وهم القوم لا يشقى متبعهم- وأنت المصيب؟!

 

1- فمن المفسرين: إمامهم ابن جرير الطبري (ت310) والبغوي أبو محمد (169) والزمخشري (538) وابن العربي (553) وابن تيمية (728) وابن حيان الأندلسي (754) وغيرهم كثير كثير ممن ذكرنا هناك.

 

2- ومن المحدثين: ابن حزم (ت456) والباجي الأندلسي (474) وزاد هذا بياناً وردّاً على مثل الشيخ وتهوّره، فقال:

 

 " ولا يظهر منها غير دور وجهها".

 

وابن الأثير (ت606) والحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852)، ونص كلامه:

 

" والخمار) للمرأة كالعمامة للرجل".

 

وهنا لا بد لي من الوقفة- وإن طال الكلام أكثر مما رغبت- لبيان موقف للشيخ التويجري غير مشرف له في استغلاله لخطأ وقع في شرح الحافظ لحديث عائشة الآتي في الكتاب (78) في نزول آية (الخُمُر) المتقدمة، وبتره من شرح الحافظ نص كلامه المذكور لمخالفته لدعواه! فقال الحافظ في شرح قول عائشة في آخر حديثها:" فاختمرن بها" (8/490):

 

" أي: غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها، وترميمه من الجانب الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، و (الخمار) …" إلى آخر النص.

 

فأقول: لقد ردّ الشيخ في كتابه (ص 221) قولي الموافق لأهل العلم –كما علمت- بتفسير الحافظ المذكور: "غطين وجوههن"، وأضرب عن تمام كلامه الصريح في أنه لا يعني ما فهمه الشيخ، لأنه يناقض قوله: " وصفة ذلك …" فإن هذا لو طبَّقه السيخ في خماره لوجد وجهه مكشوفاً غير مغطى! ويؤكد ذلك النص الذي بتره الشيخ عمداً أو تقليداً، وفيه تشبيه الحافظ خمار المرأة بعمامة الرجل، فهل يرى الشيخ أن العمامة أيضاً- كالخمار عنده- تغطي الرأس والوجه جميعاً؟! وكذلك قوله:" وهو التقنع"، ففي كتب اللغة:" تقنّت المرأة أي: لبست القناع وهو ما تغطي به المرأة رأسها"، كما في " المعجم الوسيط" وغيره، مثل الحافظ نفسه فقد قال في " الفتح" (7/235 و 10/274):

 

" التقنع: تغطية الرأس" وإنما قلت: أو تقليداً. لأني أربأ بالشيخ أن يتعمد مثل هذا البتر الذي يغيّر مقصود الكلام، فقد وجدت من سبقه إليه من الفضلاء المعاصرين، ولكنه انتقل إلى رحمة الله وعفوه، فلا أريد مناقشته. عفا الله عنا وعنه.وبناءً على ما سبق فقوله: " وجوههن"، يحتما أن يكون خطأ من الناسخ، أو سبق قلم من المؤلف، أراد أن يقول: "صدورهن" فسبقه القلم! ويحتمل أن يكون أراد معنىً مجازياً أي: ما يحيط بالوجه من باب المجاورة فقد وجدت فق "الفتح" نحوه في موضع آخر من تحت حديث البراء رضي الله عنه:" أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ بالحديد …" الحديث. رواه البخاري وغيره، وهو مخرج في " الصحيحة" (2932) فقال الحافظ (6/ 25):

 

" قوله: "مقَنَّع" بفتح القاف والنون المشددة: وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب"

 

فإنه يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي فضلاً عن القتال كما هو ظاهر.

 

وبعد هذا، فلنعد إلى ما كان في صدده من ذكر أسماء المحدثين المفسرين للخمار بغطاء الرأس:

 

بدر الدين العيني (ت855) في " عمدة القاري" (19/ 92) وعلي القاري (ت1014) والصنعاني (ت 1182) والشوكاني (ت125) وأحمد محمد شاكر المصري (ت1377) وغيرهم.

 

3- ومن الفقهاء: أبو حنيفة (ت150) وتلميذه محمد بن الحسن (ت189) في " الموطأ) وستأتي عبارته في (ص34) والشافعي القرشي (ت204) والعيني (855) وتقدم قال في " البناية في شرح الهداية" (2/58):

 

 " وهو ما تغطي به المرأة رأسها"

 

4- ومن اللغويين: الراغب الأصبهاني (ت502) قال في كتابه الفريد" المفردات في غريب القرآن" (ص159):

 

" الخمر، أصل الخمر: ستر الشيء ويقال لما يستتر به: (خمار) لكن (الخمار) صار في  التعارف اسماً لما تغطي به المرأة رأسها، وجمعه (خُمُر) قال تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وابن منظور (ت711) والفيروز أبادي (816) وجماعة من العلماء المؤلفين ل" المعجم الوسيط"- كما تقدم- مع نص قولهم الصريح في أنه غطاء الرأس.

 

من أجل هذه النقول عن هؤلاء الأئمة الفحول، لم يسع الشيخ الفاضل محمد بن صالح بن عثيمين إلا أن يخالف الشيخ في تعصبه لرأيه، ويوافق هؤلاء الأئمة فقال في رسالته (ص6):

 

" (الخمار):ما تخمّر به المرأة رأسها وتغطيه به ك (الغدفة) ".

 

قلت: فبهذه الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة التفسير والحديث والفقه واللغة، ثبت قولنا: إن الخمار غطاء الرأس وبطل قول الشيخ التويجري ومقلديه، كابن خلف الذي زعم (ص 70) من " نظراته" " أن الخمار عام لمسمى الرأس والوجه لغة وشرعاً. واغترَّ به-مع الأسف- أخونا الفاضل محمد بن إسماعيل الإسكندراني، فطبع في كتابه" عودة الحجاب" (3/285) عنواناً نصه:" الاختمار لغة يتضمن تغطية الوجه". ثم لم يأتيا على ذلك بأي دليل، سوى البيتين من الشعر اللذين كنت سقتهما في كتابي (ص73) مؤيداً قولي هناك: بأنه لا ينافي كون الخمار غطاء الرأس أن يستعمل أحياناً لتغطية الوجه، واستدللت على ذلك ببعض الأحاديث فتجاهلوها مع الأسف ولم يحيروا جواباً!

 

وأزيد هنا فأقول: قد جاء في قصة جوع النبي صلى الله عليه وسلم أن أنساً رضي الله عنه قال عن أم سُلَيم:

 

" فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه…" الحديث.

 

أخرجه البخاري (3578) ومسلم (6/ 118) وغيرهما.

 

والشاهد منه واضح وهو أن الخمار الذي تغطي المرأة به رأسها قد استعملته في لف الخبز وتغطيه، فهل يقول أحد: إن من معاني الخمار إذا أطلق أنه يغطي الخبز وتغطيه؟! لا أستبعد أن يقول ذلك أولئك الذين تجرؤوا على مخالفة تلك النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة الدالة على أن (الخمار) غطاء الرأس دون دور وجهها، فقال أولئك: ووجهها. لا لشيء، إلا لأنه قد استعمل لتغطية الوجه كالجلباب ! ولو أحياناً!

 

وإذا عرفت هذا فمن أخطاء التويجري- ومن لفَّ لفَّه- قوله بعد تفسيره الخمار بما تبين خطؤه (ص122):

 

" فالاعتجار مطابق للاختمار في المعنى".

 

فأقول: نعم هو كذلك بالمعنى الصحيح المتقدم للاختمار وأما بمعنى تغطية الوجه عند الإطلاق فهو باطل لغة ولا أريد أن أطيل في نقل الشواهد على ذلك من كلام العلماء، وإنما أكتفي هنا على ما قاله الإمام الفيروزأبادي في " قاموسه" والزبيدي في " تاجه" عاجلاً كلام الأول بين هلالين قال (3/383):

 

" (الاعتجار): لي الثوب على الرأس من غير إدارة تحت الحنك وفي بعض العبارات: هو " لف العمامة دون التلحِّي) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه دخل مكة يوم الفتح معتجراً بعمامة سوداء" المعنى: أنه لفها على رأسه ولم يتلح بها. والمعجر (كمنبر: ثوب تعتجر به) المرأة أصغر من الرداء وأكبر من المقنعة وهو ثوب تلفّه المرأة على استدارة رأسها ثم تجلبب فوقه بجلبابها، كالعجار ومنه أخذ الاعتجار بالمعنى السابق".

 

قلت: وهذا لا ينافي ما احتجَّ به الشيخ التويجري لدعواه بقوله (ص 161):

 

" قال ابن كثير: وفي حديث عبدالله بن عدي بن الخيار: جاء وهو معتجر بعمامته ما يَرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه. الاعتجار بالعمامة: هو ن يلفّها على رأسه ويَرُدُّ طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه. انتهى". قلت: لا ينافي هذا ما تقدم عن العلماء باللغة من الشرح لـ (الاعتجار) لأن ما قاله ابن الأثير مصرح به في الحديث: " ما يرى منه إلا عينيه" فهو صفة كاشفة لـ (الاعتجار) وليست لازمة له كما لو قال قائل: (جاء مختمراً أو متعمماً لا يرى منه إلا عيناه) فذلك لا يعني عند من يفهم اللغة أن من لوازم الاختمار والتعمم تغطية الوجه إلا العينين. ولذلك لم يزد الحافظ في " الفتح" (7/ 369) على قوله:

 

" (معتجر) أي: لافّ عمامته على رأسه من غير تحنيك".

 

وجملة القول: إن الخمار والاعتجار عند الإطلاق إنما يعني: تغطية الرأس فمن ضمَّ إلى ذلك تغطية الوجه فهو مكابر معاند لما تقدم من الأدلة وعلى ذلك يسقط استدلال الشيخ – ومن قلده- بالأحاديث التي فيها اختمار النساء أو اعتجارهن على دعواه الباطلة شرعاً ولغة ويسلم لنا –في الوقت نفسه- استدلالنا بآية (الخمار) وحديث فاطمة الآتي (ص66) رقم (5) على أن وجه المرأة ليس بعورة كما سيأتي بيانه هناك. والله المستعان. (انظر حديث عائشة في اختمار النساء المهاجرات فيما يأتي من الكتاب صفحة 87).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحث الخامس: هل أجمع المسلمون على أن وجه المرأة عورة وأنها تمنع أن تخرج سافرة الوجه؟

 

ذلك ما ادَّعاه الشيخ التويجري-هداه الله وقلده فيه بعضهم- يعيد ذلك ويكرره في مواضيع كثيرة وفي صفحات عديدة متقاربة من كتابه لا يكل ولا يمل! (156و197و 217و244و245و147) يفعل هذا وهو يعلم في قرارة نفسه أن لا إجماع فيه لأنه يمر على الخلاف ولا ينقله وقد ينقله ثم يتجاهله! كما سيأتي بيانه قريباً بما لا يدع أي شك في ذلك وكلامه في ذلك مختلف لفظاً متفق معنىً وحسبي أن أنقل منه نصين فقط طلباً للاختصار:

 

الأول: قوله (ص197 و 217) بالحرف الواحد:

 

" وحكى ابن رسلان: اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه. نقله الشوكاني عنه في (نيل الأوطار) "

 

فأقول: إليك نص ما في " نيل الأوطار" (6/98- البابي الحلبي) تحت حديث عائشة:

 

" يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفيه":

 

" وفيه دليل لمن قال: إنه يجوز نظر الأجنبية. قال ابن رسلان: وهذا عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو دونه أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق. وحكى القاضي عياض عن العلماء: أنه لا يلزم ستر وجهها في طريقها، وعلى الرجال غض البصر للآية وقد تقدم الخلاف في أصل المسألة".

 

قلت: يشير إلى بحث له في الباب الذي قبل حديث عائشة المذكور آنفاً شرح فيه آية: { ولا يُبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} (النور: 31) ونقل تحتها تفسير الومخشري للزينة فيها ومنه قوله:

 

"فما كان ظاهراً منها كالخاتم والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب…".

 

ثم قال الشوكاني عقبه:

 

" والحاصل: أن المرأة تبدي من مواضع الزينة ما تدعو الحاجة إليه الحاجة عند مزاولة الأشياء والبيع والشراء والشهادة، فيكون ذلك مستثنى من عموم النهي عن إبداء مواضع الزينة وهذا على ما يدل على أن الوجه والكفين مما يستثنى"

 

فتأمل أيها القارئ الكريم! هل المسألة مجمع عليها كما قال الشيخ أولاً؟! وهل كان أميناً في نقله لكلام ابن رسلان، ثم لكلام الشوكاني ثانياً؟! والذي تبنى ما دل عليه حديث عائشة الذي قويناه في الكتاب (ص 75- 60) كما تبنَّاه مجد الدين ابن تيمية رحمه الله بترجمته له بـ" باب أن المرأة عورة إلا الوجه والكفين"، أما الشيخ فضعفه بشطبة قلم –كما يقال- ولم يعرّج على الشاهد وعمل السلف وتقوية الحافظ البيهقي وغيره كما سيأتي فأغمض عينيه عن ذلك كله مكابرة وعناداً وبطراً وتورَّط به ما واحد من الكتابين المقلدين في هذه المسألة.

 

-والآخر من نصيبه: قوله في بعض أجوبته (ص243):

 

" الصواب مع المشايخ الذين يذهبون إلى أن وجه المرأة عورة لا يجوز لها كشفه عند الرجال الأجانب ودليلهم على ذلك الكتاب والسنة والإجماع"!

 

بطلان الإجماع الذي ادعاه:

 

فأقول وبالله وحده أستعين:

 

لم ينطق بكلمة " الإجماع" في هذه المسألة أحد من أهل العلم فيما بلغني وأحاط به علمي إلا هذا الشيخ وما حمله على ذلك إلا شدَّته وتعصبه لرأيه، وإغماضه لعينيه عن كل ما يخالفه من النصوص فإن الخلاف فيها قديم لا يخلو منه كتاب من الكتب المتخصصة في بحث الخلافيات ولو كان في قوتي متسع لألّفت رسالة خاصة أسرد فيها ما تيسّر لي من أقوالهم في هذه المسألة ولكن لا بدَّلي من أن أنقل هنا بعضها، مما يدل على بطلان الإجماع الذي ادَّعاه فأقول:

 

الأول: قال ابن حزم في كتابه" مراتب الإجماع" (ص29) ما نصه:

 

" واتفقوا على أن شعر الحرة وجسمها حاشا وجهها ويدها عورة واختلفوا في الوجه واليدين حتى أظفارهما عورة هي أم لا؟"

 

وأقرَّه شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه عليه، ولم يتعقبه كما فعل في بعض المواضع الأخرى.

 

الثاني: قال ابن هبيرة الحنبلي في " الإفصاح" (1/118-حلب):

 

" واختلفوا في عورة المرأة الحرة وحدِّها فقال أبو حنيفة: كلها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين. وقد روي عنه أن قدميها عورة وقال مالك الشافع: كلها عورة إلا وجهها وكفيها وهو قول أحمد في إحدى روايتيه والرواية الأخرى: كلها عورة إلا وجهها وخاصة. وهي المشهورة واختارها الخرقي".

 

وفاتته رواية ثالثة وهي: أنها كلها عورة حتى ظفرها كما بأتي مع بيان رد ابن عبد البر لها قريباً.

 

الثالث: جاء في كتاب" الفقه على المذاهب الأربعة" تأليف لجنة من العلماء منهم الجزيري: في بحث حد عورة المرأة (1/167-الطبعة الثانية):

 

" أما إذا كانت بحضور رجل أجنبي أو امرأة غير مسلمة فعورتها جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين فإنهما ليسا بعورة فيحل النظر لهما عند أمن الفتنة".

 

ثم استثنى من ذلك مذهب الشافعية وفيه نظر ظاهر لما تقدم في " الإفصاح" وغيره مما تقدم ويأتي.

 

الرابع: قال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/364) - وقد ذكر أن المرأة كلها عورة إلا الوجه والكفين وأنمه قول الائمة الثلاثة وأصحابهم وقول الأوزاعي وأبي ثور-:

 

" على هذا أكثر أهل العلم وقد أجمعوا على أن المرأة تكشف وجهها في الصلاة والإحرام وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها!"

 

ثم قال ابن عبد البر:

 

" قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم، لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها تباشر الأرض به وأجمعوا أنها لا تصلي منتقبة ولا عليها أن تلبس القفازين في الصلاة وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه، وأما النظر للشهوة فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة؟! وقد روي نحو قول أبي بكر هذا عن أحمد بن حنبل…"

 

قلت: وقد كنت نقلت فيما يأتي من الكتاب (89) عن ابن رشد: أن مذهب أكثر العلماء على وجه المرأة ليس بعورة وعن النووي مثله، وأنه مذهب الأئمة الثلاثة ورواية عن أحمد فبعض هذه الأقوال من هؤلاء العلماء الكبار كافية لإبطال دعوى الشيخ الإجماع فكيف بها مجتمعة؟! وإذا كان الإمام أحمد يقول فيما صح عنه: " من ادعى الإجماع فهو كاذب، وما يدريه لعل الناس اختلفوا؟!" إذا كان هذا قوله فيمن لا يدري الخلاف، فماذا كان يقول يا ترى فيمن يدري الخلاف ثم يدعي الإجماع؟!

 

فإن قيل: فمن أين لك أن الشيخ يعلم الخلاف المذكور ومع ذلك فهو يتجاهله ويكابر؟

 

فأقول: علمت ذلك من كتابه أولا، ثم من كتابي الذي ردَّ عليه ثانياً.

 

أما الأول فإنه نقل (ص157) عن الحافظ ابن كثير: أن الجمهور فسر آية الزينة بالوجه والكفين وأعاد ذلك (ص234).

 

وأما الآخر فقد ذكرت في غير موضع من كتابي من قال من العلماء بخلاف إجماعه المزعوم مثل ابن جرير وابن رشد والنووي ومنهم ابن بطال الذي نقلت عنه فيما يأتي في الكتاب (ص63) أنه استدل بحديث الخثعمية أن ستر المرأة وجهها ليس فرضاً.

 

تأويل الشيخ لكلام العلماء وتعطيله إياه: فتجاهل الشيخ ذلك كلّه ولم يتعرض له بجواب اللهم إلا جوابه الذي يؤكد لكل القراء أنه مكابر عنيد وهو قوله (ص236):

 

" إن المذهب الذي نسبه الألباني لأكثر العلماء- ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه- إنما هو في الصلاة إذا كانت المرأة ليست بحضرة الرجال الأجانب"!

 

وقلّده في هذا القول جمع ممن يمشي في ركابه كابن خلف في " نظراته"، وأخينا محمد بن إسماعيل الإسكندراني في" عودة الحجاب" (3/228) وغيرهما كثير والله المستعان.

 

ونظرة سريعة في قول ابن بطال المذكور يكفي في إبطال جواب الشيخ هداه الله وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشيخ خرِّيت ماهر- ولا فخر!- في تضليل قرائه وصرفهم عن الاستفادة من أقوال علمائهم بتأويله إياها وإبطال دلالاتها الصريحة تماماً كما يفعل أهل الأهواء بتعطيلهم لنصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة المتعلقة بالأسماء المتعلقة بالأسماء والصفات الإلهية وهذا شيء يعرفه الشيخ منهم فيبدو أنه قد سرت عدواهم إليه حفظه الله ولو في مجال الأحكام هداه الله.

 

وتأكيداً لهذا الذي ذكرت لا يسعني هنا إلا أن أذكر مذاهب الأئمة الذين افترى الشيخ عليهم بتأويله لكلامهم على خلاف مرادهم فأقول:

 

أولا: مذهب أبي حنيفة:

 

قال الإمام محمد بن الحسن في " الموطأ" (ص 205 بشرح التعليق الممجّد- هندية):

 

" ولا ينبغي للمرأة المحرمة أن تنتقب فإن أرادت أن تغطي وجهها فلتستدل الثوب سدلاً من فوق خمارها. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا".

 

وقال أبو جعفر الطحاوي في " شرح معاني الآثار" (2/392- 393):

 

" أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرَّم عليهم من النساء إلى وجوههن وأكفهن وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى".

 

ثانياً: مذهب مالك: روى عنه صاحبه عبد الرحمن بن القاسم المصري في "المدونة" (2/221) نحو قول الغمام محمد في المحرمة إذا أرادت أن تسدل على وجهها وزاد في البيان فقال:

 

" فإن كانت لا تريد ستراً فلا تسدل".

 

ونقله ابن عبد البر في " التمهيد" (15-111) وارتضاه.

 

وقال بعد أن ذكر تفسير ابن عباس وابن عمر لآية: {إلا ما ظهر منها} بالوجه والكفين (6/369):

 

" وعلى قول ابن عباس وابن عمر الفقهاء في هذا الباب. (قال (هذا ما جاء في المرأة وحكمها في الاستتار في صلاتها وغير صلاتها". تأمل قوله:" وغير صلاتها"!

 

وفي " الموطأ" رواية يحيى (2/935):

 

" سئل مالك: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها؟ فقال مالك: ليس بذلك بأس إذا كان ذلك على وجه ما يُعرفُ للمرأة أن تأكل معه من الرجال قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله".

 

قال الباجي في" المنتفى شرح الموطأ" (7/252) عقب هذا النص:

 

" يقضي أن نظر الرجل إلى وجه المرأة وكفيها مباح لأن ذلك يبدو منها عند مؤاكلتها".

 

ثالثاً: مذهب الشافعي:

 

قال في كتابه" الأم " (2/185):

 

" المحرمة لا تخمِّر وجهها إلا أن تريد أن تستر وجهها فتجافي…"

 

وقال البغوي في " شرح السنة" (9/ 23):

 

"فإن كانت أجنبية حرة فجمع بدنها عورة في حق الرجل لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه واليدين إلى الكوعين وعليه غض البصر عن النظر إلى وجهها ويديها أيضاً عند خوف الفتنة".

 

فهل هذه النصوص- أيها الشيخ! – في الصلاة؟!

 

رابعاً: مذهب أحمد:

 

روى ابنه صالح في " مسائله" (1/310) عنه قال:

 

" المحرمة لا تخمِّر وجهها ولا تتنقب والسدل ليس به بأس تسدل على وجهها".

 

قلت: فقوله: " ليس به بأس" يدل على جواز السدل فبطل قول الشيخ بوجوبه كما بطل تقييده للرواية الأخرى عن الإمام الموافقة لقول الأئمة الثلاثة بأن وجهها وكفيها ليسا بعورة كما تقدم في كلام ابن هبيرة وقد أقرّها ابن تيمية في" الفتاوى" (15/371) وهو الصحيح من مذهبه كما تقدم عن" الإنصاف" وهو اختيار ابن قدامة كما تقدم في " البحث الأول" وعلل ذلك بقوله:

 

" ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما بالنقاب لأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء والكفين للأخذ والإعطاء".

 

ومثل هذا التعليل ذكر في كثير ممن الكتب الفقهية وغيرهما ك" البحر الرائق" لإبن نجيم المصري (1/284) وتقدم نحوه عن الشوكاني في أول هذا" البحث الخامس" (ص27).

 

ومما سبق يتبين للقراء الكرام أن أقوال الأئمة الأربعة متفقة على تخيير المرأة المحرمة في السدل على وجهها وعدم إيجاب ذلك عليها خلافاً للمتشددين والمقلدين‍ هذا من جهة.

 

ومن جهة أخرى فقد دل قول مالك في " الموطأ" وقول ابن عبد البر:"وغير صلاتها" على تأويل التويجري المذكور وكذلك تخيير الأئمة المحرمات بالسدل لأن ذلك خارج الصلاة.

 

فأريد الآن أن أتبيَّن لقرائنا الأفاضل علماً كتمه المذكورون- أو جهلوه وأحلاهما مر‍-: أن سلف الأئمة رحمهم الله تعالى- فيما سبق- أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قولاً وفعلاً.

 

أما القول فهو:" المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً مَسَّه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تَلَثَّم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت".

 

أخرجه البيهقي في "سننه" (5/47) بسند صحيح وعزاه إليه الحافظ في " الفتح" (4/52-53) ساكتاً عليه فهو عنده فهو شاهد قوي لحديثها المتقدم في هذا " البحث الخامس" صفحة (27-28): " يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض… ". وكذلك يشهد له حديثها الآتي.

 

وأما الفعل فهو ما جاء في حديث عمرتها من التنعيم مع أخيها عبد الرحمن قالت:

 

" فأردفني خلفه على جمل له قالت: فجعلت أرفع خماري أحسره عن عنقي فيضرب رجلي بعلّة الراحلة قلت له:و هل ترى من أحد…".

 

أخرجه مسلم (4/34) والنسائي في "السنن الكبرى" (2/223- المصورة) والطيالسي أيضاً في " مسنده" (1561) لكن بلفظ:

 

"فجعلت أحسر عن خماري فتناولني بشيء في يده …".

 

فسقط منه قولها:" عنقي" ورواية مسلم أصح سنداً وأرجح متناً كما بينته في "المقدمة" ولذلك لم يعزه الشيخ إلى مسلم وتبعه على ذلك بعض المقلدة- كالمدعو درويش في " فصله" (ص43) - لأنها حجة عليهم من جهة أن الخمار لا يغطي الوجه لغة كما تقدم وكونها معتمرة فلا يجوز لها أن تلثم به كما قالت آنفاً فتغطيتها لوجهها بالسدل- كما في بعض الروايات- فعلٌ منها نقول به، ولكن لا يدل على الوجوب خلافاً لزعم المخالفين.

 

قلت: فبطل بهذا البيان تأويل الشيخ المذكور لمخالفته أقوال أئمة الفقه المصرّحة بجواز الكشف عن الوجه في الصلاة وخارجها بحضرة الرجال ولتعليل بعضهم الجواز بحاجة المرأة إلى البيع والشراء والأخذ والإعطاء وبجواز المؤاكلة أيضاً. فهذه الأقوال يحملها الشيخ على الصلاة وليس بحضرة الرجال

 

فما أبطله من تأويل بل تعطيل. فأنا لله وإنا إليه راجعون.

 

ثم إن مما يؤكد جهل الشيخ بالفقه وأقوال الفقهاء- أو على الأقل تجاهله وتحامله عليَّ وبَطره للحق- أن من مراجع كتابه (ص 109) ابن مفلح في " الآداب الشرعية" وابن مفلح هذا من كبار علماء الحنابلة في القرن الثامن،ومن تلامذة ابن تيمية وكان يقول له:" ما أنت ابن مفلح بل أنت مفلح". وقال ابن القيم فيه:

 

" ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح".

 

إذا عرفت هذا فقد قال المفلح هذا في كتابه المذكور " الآداب الشرعية " (1/316) ما نصه:

 

" هل يسوغ الإنكار على النساء الأجانب إذا كشفن وجوههن في الطريق؟

 

ينبني (الجواب) على أن المرأة هل يجب عليها ستر وجهها أو يجب غض النظر عنها؟ وفي المسألة قولان قال القاضي عياض في حديث جرير رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري. رواه مسلم. قال العلماء رحمهم الله تعالى: وفي هذا حجة على أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة مستحبة لها ويجب على الرجل غض البصر عنها في جميع الأحوال إلا لغرض شرعي. ذكره الشيخ محيي الدين النووي ولم يزد عليه".

 

يعني: غي " شرح مسلم" قبيل (كتاب السلام) وأقرَّه.

 

ثم ذكر المفلح قول ابن تيمية الذي يعتمد عليه التويجري في كتابه (ص170) وتجاهل أقوال جمهور العلماء وقول القاضي عياض الذي نقله المفلح وارتضاه تبعاً للنووي. ثم قال المفلح:

 

" فعلى هذا هل يشرع الإنكار؟ ينبني على الإنكار في مسائل الخلاف وقد تقدم الكلام فيه فأما على قولنا وقول جماعة من الشافعية وغيرهم: إن النظر إلى الأجنبية جائز من غير شهوة ولا خلوة.

 

قلت: هذا ما قاله هذا الإمام الحنبلي قبل ستة قرون (ت763) تبعاً لمن اقتديت بهم من الأئمة السالفين أفلا يعلم الشيخ ومن ضلَّ –هداهم الله- أنهم رحمهم الله ينالهم القدح الذي وجهه إلي في آخر كتابه- كما تقدم- وهو قوله:

 

"ومن أباح السفور للنساء واستدل على ذلك بمثل ما استدل به الألباني فقد فتح باب التبرج على مصراعيه…" إلى آخر هرائه هداه الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحث السادس: تعطيلهم الأحاديث الصحيحة المخالفة لهم

 

قد جاءت أحاديث كثيرة في كشف النساء لوجوههن وأيديهن- كما سيأتي في الكتاب- يبلغ مجموعها مبلغ التواتر المعنوي عند أهل العلم فلا جرم عمل بها جمهور العلماء ولن المقلدين المتعصبين قد سلَّطوا عليها أيضاً معاول التخريب والتهديم بتأويلها وتعطيلها وإبطال معانيها ودلالاتها الظاهرة البينة كما فعلوا بأقوال الأئمة كما عرفت آنفاً ولا يتسع المجال هنا لمناقشتهم في كل تأويلاتهم فإنها لكثرتها تتطلب تأليف رسالة خاصة بها لسرد الأحاديث وأقوالهم في تأويلها ثم الرد عليها فلا أقل من ذكر بعض النماذج منها تغني القارئ المنصف عن الباقي.الحديث الأول: وهو الثاني في الكتاب (ص61-62) حديث الخثعمية وفيه أنها كانت حسناء وضيئة وفيه:" فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها".

 

فأقول:اضرب الشيخ وقلدوه أو موافقوه في الانفصال من دلالة الحديث الصريحة على وجوه:

 

فتارة يقول (ص208):

 

" ليس فيه امرأة كانت سافرة بوجهها فيحتمل أن ابن عباس أراد حسن قوامها وقدّها و وضاءة ما ظهر من أطرافها"!

 

وهذا كلام ينقض أوله آخره وآخره أوله فإن " أطرافها" هي اليدان والرجلان والرأس- كما هو معلوم في اللغة- وعليه فما نفاه في أوله أثبته في آخره ولكن بطريقة اللف والدوران- مع الأسف- فإن " أطرافها" تشمل الوجه لغة ففي"القاموس":

 

" الأطراف من البدن: اليدان والرجلان والرأس".

 

فهل جَهلَ الشيخ هذه الحقيقة اللغوية- كما هو شأنه في تفسيره ل (الجلباب) و (الخمار) و (الاعتجار) –أم تناساها تمويهاً وتضليلاً؟! فإن كان الأول فهل جهل قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف: وجهه وكفاه…" الحديث، أم تناساه أيضاً؟ وسواء كان هذا أو ذاك فإنه قال هناك:" أطراف يديها"!

 

وتارة يقول (ص219):" وإن كان الفضل قد رأى وجهها فرؤيته لا تدل على أنها كانت مستديمة لكشفه…".

 

وهذه مكابرة أخرى تشبه سابقتها من حيث التجاهل فإن قول ابن عباس: "فأخذ الفضل ينظر يلتفت إليها"، وفي الرواية الأخرى:" فطفق ينظر إليها وأعجبه حسنها" يبطل قول الشيخ ومن قلده-مثل أخينا الطيب محمد بن إسماعيل (3/368) - وذلك من وجهين:

 

الأول: قوله:" ينظر يلتفت"، فإنه يفيد استمرار الفعل لغة كما هو معلوم.

 

والآخر: قوله: " فطفق" فإن معناه: استمر ينظر، كقوله تعالى: { فطفق مسحاً بالسوق والأعناق} (ص33) وقوله: { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} (الأعراف:22) ومثله في البخاري في قصة اغتسال موسى عليه السلام وحده:" فطفق بالحجر ضرباً" وفيه أيضاً في حديث الهجرة:" فطفق أبو بكر يعبد ربه".

 

ولذلك قال ابن بطال- كما سيأتي في الكتاب (ص36) -:

 

" لم يحول النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها…" إلخ

 

ثم استدل بذلك على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضاً وهذا هو الذي لا يمكن أن يفهم سواه العلماء المنزَّهون عن التعصب المذهبي ولذلك لم يستطع الحافظ ابن حجر –مع علمه الواسع ومعرفته باللغة وآدابها– إلا أن يقول ردّاً على ابن بطال:

 

" إنها كانت محرمة"، كما سيأتي هناك.

 

ولا يخفى على أهل العلم أن هذا الجواب إنما يستقيم لو كان لا يجوز للمحرمة أن تغطي وجهها بالسدل عليه، وهذا مما لا يقول به الحافظ أو غيره من العلماء فرده مردود وقد يشعر بعضهم بضعف هذا الرد فينحرف عن دلالة الحديث الظاهرة في جواز كشف وجهها إلى القول بأنه لا دليل فيه على جواز النظر إلى وجهها كما جاء في رسالة الشيخ ابن عثيمين وغيرها. فنقول: نعم لا يجوز ذلك عند خشية الفتنة ولذلك لا يجوز لها أن تنظر إلى وجه الرجل الأجنبي عنها عند الفتنة أفيجب عليه أن يستره عنها؟!

 

الحديث الثاني: وهو الثالث في الكتاب (ص64- 65) حديث المرأة التي قالت: "يا رسول الله ! جئت لأهب لك نفسي…" الحديث.

 

أقول: فمن المضحك المبكي أن الشيخ التويجري حشر هذا الحديث في جملة الأحاديث التي استدل بها على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى وجه خطيبته ورقبتها (كذا) وأطراف يديها. ولما أجاب (ص 219) عن استدلالي بالحديث أوهم أنه في المخطوبة! وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد خطبها- كما ذكرت هناك عن الحافظ ابن حجر- وإنما هي عرضت نفسها عليه صلى الله عليه وسلم كما هو صريح الحديث وكان ذلك في المسجد كما في رواية الإسماعيلي وعلى مرأى من سهل بن سعد راويه والقوم الذين كان فيهم كما في رواية للبخاري وأبي يعلى والطبراني وروايتيهما أتم كما ستراها هناك.

 

فهل استقام في ذهن الشيخ ومقلديه جواز الخِطبة على مرأى من الأجانب؟! وهو الأمر الذي ينكرونه ويبالغون في إنكاره ولو بتحريف الكلام عن مواضعه! كقول بعضهم:

 

" ليس في الحديث أنها كانت سافرة الوجه…".

 

ذكره الأخ في " العودة" (3/368) مع أقوال أخرى لا تستحق الذكر لظهور بطلانها منها قول التويجري المذكور ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم. وهذه الكلمة حق أريد بها باطل لأن البحث في رؤية الصحابة كما لا يخفى على ذي عين!

 

وفي ظني أن الشيخ الفاضل محمد بن صالح بن عثيمين إنما لم يتعرض للجواب عن الحديث بشيء من هذه الأجوبة لظهور ضعفها فرأى السلامة في السكوت وترك المراء جزاه الله خيراً وإن كنت آمل منه إعادة النظر في المسألة على ضوء ما تقدم من البيان وما سيأتي في الكتاب من الفوائد الجديدة والزيادات التي لم تكن في الطبعات السابقة.

 

الحديث الثالث" وهو الخامس في الكتاب (ص66) وهو حديث فاطمة بنت قيس وأمره صلى الله عليه وسلم إياها بالانتقال إلى ابن أم مكتوم الأعمى وقال لها:" فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك" لقد بينت هناك وجه دلالة الحديث على أن الوجه ليس عورة فرد الشيخ ذلك (ص221-223) بعد كلام طويل لا طائل تحته ودس فيه ما لا أقول به ومن ذلك قوله:

 

" وأين النص في الحديث على وجوب ستر الرأس وحده وتحريم كشفه عند الرجال الأجانب دون الوجه والرقبة"!

 

فأقول: أما النص فهو في إذن لها في أن تظهر أمام الضيفان بخمارها الذي لا يغطي الوجه لولا خشية سقوطه عنها فيرون رأسها ولذلك أمرها بالانتقال إلى ابن أم مكتوم رضي الله عنه وعلل صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:"فإنك إذا وضعت خمارك لم يركِ" والخمار غطاء الرأس عند جماهير العلماء كما تقدم تحقيقه بما لا مرد له عند من يعقل وينصف فهذا هو النص على الرأس دون الوجه. وأما قولك:" والرقبة" فهو دس رخيص لا أدري هل يمكن أن يصدر مثله من الشيخ فاضل متّق يدري ما يخرج من فيه؟! فإنه يعلم أن ذكر الرقبة ليس من موضوع البحث! وأنه لا خلاف في كونها عورة منها وأن الخمار يسترها فأعوذ بالله من الحور بعد الكور!

 

وأما اعتراضك على استدلالي المذكور بقولك (ص 222):

 

" ولو كان الأمر كذلك لقال صلى الله عليه وسلم: فإنك إذا وضعت خمارك لم ير رأسك أولم ير شعرك".

 

فأقول: كفاك أيها الشيخ! جدلاً ومكابرةً! فإن النبي صلى الله عليه سلم لا يتكلم حسب هواك فإنه أفصح من نطق بالضاد وأوتي جوامع الكلام فإن (الخمار) معناه في اللغة التي كانت تفهمها فاطمة رضي الله عنها على خلاف فهمك المستعجم فلا داعي ليقول لها ما طرحته وألزمتنا به، ألا ترى أنه يستطيع أقل الناس فهماً أن يقلبه عليك فيقول لك:" ولو كان الأمر على ما ذهبت إليه أن الخمار لم ير رأسك ووجهك". فهل تلتزم هذا أيها الشيخ المسكين! أم تجيب بنحو جوابي المذكور وأن الخمار بزعمك يشمل الوجه أيضاً؟! وحينئذٍ يتبين لك ما ألزمتنا به غير لازم وأنك تجادل بالباطل لتضلَّ الناس بغير علم فأنك في كل كتابك وردِّك لم تأت بنص ممن الكتاب والسنة وأقوال الأئمة المتقدمين – على اختلاف اختصاصاتهم- يشهد لزعمك المذكور ولن تستطيع إلى ذلك سبيلاً البتة.

 

ومن الدليل على ذلك تصريح ابن بلدك الشيخ الفاضل محمد بن عثيمين: بأن الخمار ما تغطي المرأة رأسها- كما تقدم نقله عنه- ولذلك –فيما أظن- رأى السلامة أيضاً أن لا يدخل نفسه في مثل مجادلتك ومكابرتك فلم يتعرض للجواب عن استدلالنا بهذا الحديث وما ذاك إلا لقوة دلالته والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحث السابع: استدلالهم بالأحاديث الضعيفة والآثار الواهية وإصرارهم على ذلك بعد أن وقفوا على عللها التي تمنعهم شرعاً من الاحتجاج بها لو أنصفوا ولم يتبعوا أهواءهم.

 

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"الفتاوى" (1/ 246):

 

" والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله".

 

والشيخ كأنه قول ابن تيمية هذا فإنه لم يتثبَّت فيما نقل عن السلف ولا في دلالته بل بعضه حجة عليه وإليك بعض الأمثلة:

 

الحديث الأول: عن ابن عباس قال:" أمر الله النساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن… ويبدين عيناً واحدة" وسيأتي في الكتاب (ص88).

 

لقد بينت هناك أن للحديث علتين فأغمضوا أعينهم عنهما وتتابعوا جميعاً على الاحتجاج به وصرح السندي (ص19- 20) بصحة سنده دون أن يبين ذلك على أسلوب علماء الحديث عامله الله بما يستحق وخفي ذلك على الإسكندراني فأقره (3/ 265) ! والله المستعان! وكرره الشيخ التويجري مراراً (ص 163- 226-232) ونسبني بسبب مخالفتي إياه للإلحاد ! فقال (ص233):

 

" وكلام الألباني في تفسير آية الأحزاب لم يَسبقه إليه أحد من الصحابة والتابعين وقد خالف ما جاء عن حبر الأمة وغيره من أكابر التابعين في تفسيرها فهو إذاً من الإلحاد في آيات الله تعالى وتحريف الكلام…".

 

كذا قال – هداه الله – ولست أقابله إلا بقوله تعالى تعليماً لنا: { وإنّا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين} (سبأ: 24) ولكني سأثبت لكل منصف أن كلام الشيخ سيحور عليه مصداق قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:" ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله ! وليس كذلك إلا حار عليه" وقول المثل السائر:" رمتني بدائها وانسلّت" وذلك أن هناك رواية أخرى عن ابن عباس- في المصدر الذي نقل الشيخ الرواية الأولى منه وهو "الدر المنثور" – كتمها الشيخ ومقلدوه، لأنها تخالف أهواءهم ونصها في تفسير آية الإدناء:"وإدناء الجلباب أن تقنع وتشد على جبينها" رواه ابن جرير وابن مردويه.

 

وهذا نص قولنا وذكره ابن جرير (22/33) تحت قوله:

 

" وقال آخرون: بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن". وهذا وإن كان إسناده ضعيفاً فإنه أرجح من الأول لأمور:

 

1- أنه الأقرب إلى لفظ (الإدناء) كما تقدم في " البحث الأول ".

 

2- أنه الموافق لما صح عن ابن عباس من طرق سبعة عنده: أن الوجه والكفين من الزينة الظاهرة

 

التي يجوز كشفها وقد خرجت الطرق السبعة في " المقدمة" وبعضها صحيح-كما سيأتي في الكتاب- وهو نص في المقصود كما قال ابن القطان الفاسي في " النظر في أحكام النظر" (ق 20/2) وقواه بتوثيقه لرجاله وأشار السندي إلى أسانيده وجزم بعدم صحتها (ص18) وإن من خبثه وتدليسه أنه ساق الضعيف منها وأفاض في إعلالها وكتم الصحيح منها ! وأقره الإسكندراني (3/ 265) لجهله بهذا العلم الشريف ولذلك فقد أساء إلى نفسه وإلى قرائه بدخوله فيما لا يحسنه!

 

3- أنه الموافق لما رواه أبو الشعثاء: أن ابن عباس قال:

 

" تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به".

 

أخرجه أبو داود في " مسائله" (ص110) بسند صحيح جدّاَ

 

4- أنه المنقول عن بعض تلامذة ابن عباس رضي الله عنه كسعيد بن جبير فإنه فسر الإدناء: بوضع القناع على الخمار وقال

 

" لا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت بها رأسها ونحرها". وسيأتي في الكتاب (ص85).

 

وذكر نحوه أبو بكر الجصاص في" أحكام القرآن" (3/372) عن مجاهد أيضاً مقروناً مع ابن عباس:

 

" تغطي الحُرَّة إذا خرجت جبينها ورأسها".

 

ومجاهد ممن تلقى تفسير القرآن عن ابن عباس رضي الله عنه.

 

ثم تلقاه عن مجاهد قتادة رحمهما الله تعالى فإنه من تلامذته والرواة عنه فقال في تفسير (الإدناء) "

 

"أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يُقَنِّعن على الحواجب".

 

أخرجه ابن جرير (22/23) بسند صحيح عنه.

 

فقوله:" يقنعن" أي: يلبسن القناع ويشددنه على الحواجب والرأس فإن القناع هو أوسع من المقنع والمقنعة ما تقنع به المرأة رأسها كما في "القاموس" وغيره وتقدم مثله (ص19- 20) عن الحافظ وغيره.

 

فمن العجيب الغريب حقاً أن يذكر الشيخ التويجري- ومن قلده من المحوِّشين والمقمِّشين- هذا الأثر عقب حديث ابن عباس الضعيف هذا وعقب أثر عبيدة السلماني- الآتي بيان ما فيه من العلل- ذكر هذا الأثر عقب ذلك مستشهداً به! وهو حجة عليه كما ترى ولست أدري- والله – أهذا من جهل الشيخ بلغته أو تجاهل مقصود منه؟! فإن كان الأول فهل خفي عليه أن الإمام ابن جرير ذكره مترجماً به القول الثاني المخالف لقول من قال بحديث ابن عباس الضعيف فقال عقبه (22/33):

 

" وقال آخرون: بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن ذكر ممن قال ذلك…"؟!

 

ثم ساق تحته حديث ابن عباس الذي أنا في صدد ترجيحه بهذه الأمور الأربعة وأتبعه بأثر قتادة هذا.

 

أفلا يحق لي بعد هذا البيان أن أقول:إن ما اتهمني الشيخ به من المخالفة للصحابة والتابعين، والإلحاد في آيات الله تعالى وتحريف الكلام… أنه وصفه هو؟! وأن ما نسبه إلى ابن عباس جازماً به كذب عليه؟! وأني أنا أسعد الناس بمتابعته رضي الله عنه في الرواية الراجحة عنه في تفسير الآية الكريمة وفي غيرها كما سيأتي في تفسير: {إلا ما ظهر منها} (ص102)

 

وإذا تبين ضعف حديث ابن عباس في أمر النساء بتغطية وجوههن إلا عيناً واحدة وأن الرواية الأخرى عنه المصرحة بشد الجلباب على جبينها أقوى منها- لشواهدها وموافقتها ل (الإدناء) لغة ولتفسيره- يتبين للقراء الكرام حقيقة مرّة مؤسفة: وهي أن الشيخ التويجري قد سنَّ لمن كتب في هذه المسألة سنّة سيئة وهي الاحتجاج بما لم يصح من الأحاديث مع علمه بضعفها وعلتها المبينة في كتابي- كما سيأتي (ص73) - وإعراضه عن الإجابة عنها وعن ذكر ما يعارضها فعليه يصدق قوله صلى الله عليه وسلم- الذي وضعه في آخر كتابه (ص249) في غير موضعه فظلمني بذلك- ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"… ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة…" الحديث. فقد قلده عامة من وافقوه على الاحتجاج بهذا الحديث الواهي والسكوت عليه ومنهم من عزَّ علىَّ احتجاجه به في " رسالة الحجاب" (ص12) لظني به أنه يتحرّى السنة الصحيحة وبخاصة فيما يعلم أن العلماء مختلفون فيه فكيف يكون حال الآخرين الذين لا يحسنون إلا التقليد والجعجعة بل إن بعضهم زاد عليهم وَقَفا ما لا علم له به فصححه وهو المدعو صالح بن إبراهيم البليهي فيما سماه " يا فتاة الإسلام" (ص 201و 252) وهذا مما لم يقله عالم من قبل ولا يمكن أن يتفوَّه به مبتدئ في هذا العلم. فهذا مؤلف كتاب " الحجاب" الأخ مصطفى العدوي من الناشئين في هذا المجال لم يسعه إلا أن يعترف بضعف إسناده (ص28و46) وإن كان كتم العلة الثانية منه وهي ضعف عبد الله بن صالح كما تقدم لكنه قد صرح بها في كتابه الآخر " أحكام النساء" (ص19) !

 

وإن مما يسترعي الانتباه ويلفت النظر قول الشيخ الفاضل ابن عثيمين بعد أن ساق الحديث جازماً به!:

 

" وتفسير الصحابي حجة بل قال بعض العلماء: إنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم".

 

فأقول: نعم ولكن أثبت العرش ثم انقش! فقد كان الواجب عليك يا فضيلة الشيخ! قبل أن تقول هذا أن تجيب عن علَّتي الحديث وتثبت صحته على أصول علم الحديث كما هو المفروض في أمثال هذه المسألة الخلافية ولا سيما وأنت في صدد الرد على مخالفك وقد ضعف حديثك هذا من قبل فإذا كنت مسَلِّماً بضعفه فلم احتججت به؟! وإن كنت ترى صحته فلماذا لم ترد عليه وتقيم الحجة على صحته؟! أليس هذا مما يتنافى مع الكلمة الطيبة التي ذكرتها في رسالتك وقد جاء فيها (ص32):

 

"وأنه يجب على كل باحث يتحرى العدل والإنصاف…أن يقف بين أدلة الخلاف موقف الحاكم من الخصمين؟! { يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون. كَبِرَ مَقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 3و2).

 

 

 

 

الحديث الثاني: من الضعيف الذي استدلوا به ولَهَجَ به الشيخ التويجري ومقلدوه:" سؤال ابن سيرين عبيدة السلماني عن آية (الإدناء)؟ فتقنَّع عبيدة بِملحفة وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطّى وجهه وأخرج عينه اليسرى". أخرجه السيوطي في " الدر" ونقله التويجري (ص163- 164).

 

وبيان ضعفه من وجوه:

 

2- أنه مقطوع موقوف فلا حجة فيه لأن عبيدة السلماني تابعي اتفاقاً فلو أنه رفع حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكان مرسلاً لا حجة فيه فكيف إذا كان موقوفاً عليه كهذا؟! فكيف وقد خالف تفسير ترجمان القرآن: ابن عباس ومن معه من الأصحاب؟!

 

أنهم اضطربوا في ضبط العين المكشوفة فيه فقيل: "اليسرى" –كما رأيت- وقيل:" اليمنى" وهو رواية الطبري (22/33) وقيل: "إحدى عينيه " وهي رواية أخرى له ومثلها في " أحكام القرآن " للحصاص (3/ 444) وغيرهما.

 

 ذكره ابن تيمية في " الفتاوى" (15/ 371) بسياق آخر يختلف تماماً عن السياق المذكور فقال:

 

" وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره: إن نساء المؤمنين كنَّ يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق".

 

ونقله عنه التويجري (166) وابن عثيمين (ص13) وغيرهما وارتضوه.

 

وإذا عرفت هذا فاعلم أن الاضطراب عند علماء الحديث علة في الرواية تسقطها عن مرتبة الاحتجاج بها حتى ولو كان شكلياً كهذا لأنه يدل على أن الراوي لم يضبطها ولم يحفظها على أن سياق ابن تيمية المذكور ليس شكلياً كما هو ظاهر لأنه ليس في تفسير الآية وإنما هو إخبار عن واقع النساء في العصر الأول وهو بهذا المعنى صحيح ثابت في أخبار كثيرة كما سيأتي في الكتاب بعنوان:" مشروعية ستر الوجه" (ص104) ولكن ذلك لا يقتضي وجوب الستر لأنه مجرد فعل منهن ولا ينفي وجود من كانت لا تستر وجهها بل هذا ثابت أيضاً في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده كما سيأتي وتقدم بعضها.

 

4-مخالفته لتفسير ابن عباس للآية كما تقدم بيانه فما خالفه مطرح بلا شك.

 

 

الحديث الثالث: عن محمد بن كعب القرظي مثل حديث ابن عباس الأول قي:" يدنين عليهن ممن جلابيبهن " قال:" تخمِّر وجهها إلا إحدى عينيها".

 

أخرجه ابن سعد في " الطبقات" (8/176-177): أخبرنا محمد ابن عمر عن أبي سبرة عن أبي صخر عنه.

 

قلت: وهذا إسناد موضوع آفته ابن سيرة قال الإمام أحمد في " العلل" (1/204):

 

" كان يكذب ويضع الحديث".

 

والراوي عنه محمد بن عمر-وهو الواقدي- قريب منه قال الحافظ في " التقريب":

 

" متروك" وقال أحمد:"كذاب".

 

ثم هو إلى ذلك مرسل، كما سيأتي في الكتاب (ص90-91).

 

ومع هذا البلاء الذي في إسناد هذا الحديث ذكره الأخ محمد بن إسماعيل في " العودة" (3/214) ساكتاً عنه مع عزوه إياه لـ" الطبقات"!

 

كما سكت عنه الشيخ التويجري في غيرما موضع من كتابه (ص227 و233) مشيراً بذلك إلى تقوية الحديث الأول! والمبتدؤون في هذا العلم يعلمون أن مثل هذا الإسناد الهالك لا يصلح للتقوية ولكن هل هم على علم به أم هم قوم حطّابون نقلة؟! أحلاهما مرّ!

 

 

 

 

الحديث الرابع: عن الفضل بن عباس قال:

 

كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعراببي معه ابنة له حسناء فجعل يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها قال: فجعلت ألتفت إليها وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ برأسي فيلويه.

 

أخرجه أبو يعلى في " مسنده" (012/97) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عنه.

 

قلت: وهذا إسناد ضعيف رجاله ثقات ومتنه منكر وفيه علل خمس:

 

 الأولى: عنعنة أبي إسحاق- وهو السبيعي- فإنه مدلس.

 

والثانية: اختلاطه فلا يحتج بحديثه إلا ما حدَّث به قبل الاختلاط مع تصريحه بالتحديث وذلك غير متوفر هنا أما الأول فَلِما يأتي وأما الآخر فَلِما تقدم.

 

والثالثة: لينٌ في ابنه يونس ولعل ذلك خاص في روايته عن أبيه فإنه روى عنه بعد الاختلاط كما جزم بذلك ابن نمير فيما نقله عنه الحافظ ابن رجب الحنبلي في " شرح علل الترمذي" (2/520) وانظر (2/672) منه.

 

والرابعة: مخالفته لابنه إسرائيل وهو ثقة وأحفظ من أبيه فقد روى هذا الحديث عن جده به إسناداً ومتناً إلا أنه لم يذكر:" وأعرابي معه ابنة له… رجاء أن يتزوجها".

 

أخرجه أحمد (1/213) والطبراني في " الكبير" (18/288).

 

قلت: وإسرائيل مقدَّم عند الاختلاف على يونس لما تقدم ولذا قال الإمام أحمد:

 

" حديث إسرائيل أحب إليَّ منه".

 

قلت: فهذه الزيادة منكرة للمخالفة المذكورة وهذا على افتراض أنها ليست من تخالط أبي إسحاق ولم يحدِّث بها فإن كان حدَّث بها فتكون شاذة لما ذكرنا من حاله ولعلِّة أخرى وهي:

 

الخامسة: مخالفته لجميع الثقات الذين رووا الحديث عن ابن عباس دون الزيادة وهو أربعة فيما وقفت عليه وكلهم ثقات:

 

1- سليمان بن يسار في " الصحيحين" وغيرهما وسيأتي تخريجه في الكتاب (ص61-62).

 

2- الحكم بن عتيبة رواه أحمد بسند صحيح.

 

3- الحكم بن أبي رباح أحمد أيضاً بسند جيد.

 

4- مجاهد عند الطبراني في " الكبير" وإسناده جيد أيضاً.

 

وإن مما يؤكد شذوذها أنها لم ترد في حديث علي أيضاً عند الترمذي وصححه ويأتي تخريجه هناك.

 

ولا يخفى على البصير بهذا العلم الشريف أن علّة واحدة من هذه العلل الخمس كافية في تضعيف الحديث فكيف بها مجتمعة؟! فالعجب كل العجب من الحافظ ابن حجر! كيف قال في" الفتح" (4/68)

 

" رواه أبو يعلى بإسناد قوي"؟!

 

وقد وقف على هذه التقوية الشيخ عبد القادر بن حبيب السندي في رسالته" الحجاب" فتشبَّثت بها، وعقد بحثاً من صفحة (28-43/ الطبعة الخامسة) حاول فيه إثبات صحة هذا الإسناد بطرق ملتوية عجيبة ولغة ركيكة وكثير منه غير مفهوم لعجمته وما كان يبطل تصحيحه المذكور مع تناقض عجيب فقد نقل عن الحافظ أنه قال في أبي إسحاق السبيعي:" اختلط بأَخَرَة" ثم عقب عليه بقوله:

 

" قلت: رواية ابنه يونس لم تكن في حالة الاختلاط إن شاء الله تعالى".

 

وهذا – كما هو ظاهر- يعني أنه يعترف بالاختلاط كمبدأ ولكنه سرعان ما ينكل عن ذلك فيقول بعد سطور:

 

" ولم أقف على اختلاط أبي إسحاق ومع أنه ذكره ابن الكيال في كتابه" الكواكب النيِّرات"

 

كذا قال المسكين ! فَوَفَّقْ أيها القارئ الكريم!-إن استطعت – بين نفيه الوقوف واعترافه بذكر الكيال له في الكتاب المذكور وتمام اسمه " في معرفة من اختلط من الرواة الثقات" وبشهادة الحافظ باختلاطه أيضاً ! وقد ذكره آخرون: كابن الصلاح وابن كثير وغيرهم كثير وكثير وبيَّنوا – رحمهم الله – من روى عنه قبل الاختلاط فيحتج به ومم روى عنه بعده فلا يحتج به ومن هؤلاء يونس بن أبي إسحاق كما تقدم عن ابن نمير وهذا مما صرح السندي بخلافه آنفاً! وكم له من مثل هذه المخالفات – وقد أحصيت له منها في هذا الحديث وحدة ثمانية-يطول الكلام جداً بذكرها، وموضع بيانها في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" برقم (5959) ومنها زعمه أن تدليس أبي إسحاق لم يكن ضارّاً ورد على الحافظ ذكره إياه في الطبقة الثالثة، ولم يعلم بقول ابن القطان في " الوهم والإيهام" (2/208/2):" كان يدلس كثيراً"!

 

ولقد كان الحامل له على أن يدخل نفسه فيما لا يحسنه إنما هو الظهور بمظهر الباحث المحقق الذي جاء بما لم تستطع الأوائل ! وهو أن يقدم إلى المتشددين سلاحاً جديداً لإبطال دلالة حديث الخثعمية الصحيح على جواز الإسفار عن الوجه فقد اعترف في أول بحثه بأن فيه تقريراً على كشف الوجه خلافاً للشيخ التويجري ومقلديه بيدَ أنه علل كشفها بأنه إنما " كان لأجل النظر في حق الخاطب" كما قال (ص37) ثم أكد ذلك في مكانين آخرين (ص 38و 40) !

 

فيقال له: لقد أصابك هوَسُ التأويل والتعطيل للأدلة الصريحة في الحديث الصحيح المتفق عليه، باعتمادك على هذه الزيادة المنكرة مع أنه ليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاطباً وإنما فيها العرض عليه صلى الله عليه وسلم لعلّه يتزوجها فلو صح هذا فهو كحديث الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم الذي حمله التويجري على الخاطب أيضاً ولا خاطب كما تقدم بيانه في الرد عليه في" البحث السادس: تعطيلهم الأحاديث الصحيحة المخالفة لهم" (ص41) فراجعه فأنه مهم.

 

ثم لو سلمنا بما زعم السندي فذلك لا يقتضي أن قصة بنت الاعرابي هي نفس قصة الخثعمية بل هذه غير تلك يقيناً وإلى ذلك جنح الحافظ ابن القطان في كتابه" النظر في أحكام النظر" (52/1-2) لاختلاف سياقها عن تلك فبقيت سالمة من ذاك التأويل الهدّام!

 

 

 

 

الحديث الخامس:عن أم سلمة قالت:

 

كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن مكتوم- وذلك بعد أن أُمرنا بالحجاب- فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" احتجبا منه" فقلنا: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

 

" أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!".

 

أخرجه أصحاب السنن إلا ابن ماجه وغيرهم من طريق الزهري: حدثني نبهان مولى أو سلمة عنها. وهو مخرج في " الإرواء" و" الضعيفة" (5958) فمن شاء التفصيل رجع إليهما أو على الأقل إلى الأول منهما لأن الآخر لما يطبع حتى الساعة.

 

وخلاصة التحقيق الوارد فيهما:

 

1- أن الحديث تفرّد به نبهان وعنه الزهري كما قال النسائي والبيهقي وابن البر وغيرهم.

 

2- وأن نبهان مجهول العين كما أفاده البيهقي وابن عبد البر وقريب منه قول الحافظ في" التقريب":" مقبول" فإنه يعني: أنه غير مقبول إلا عند المتابعة كما نص عليه في مقدمة" التقريب" وأن قوله في " الفتح":"إسناده قوي" غير قوي لمخالفته لقوله في" التقريب" وللقواعد الحديثية- كما هو مبين في " الضعيفة"-على أن قوله:" مقبول" وإن كان مؤيداً لضعف الحديث فهو غير مقبول لأن حقه أن يقول مكانه:" مجهول" لما تقدم من تفرد الزهري عنه وما في" تهذيبه ": أنه روى عنه أيضاً محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، فهو غير محفوظ كما حققه البيهقي وشرحته هناك في " الضعيفة" وفيه الرد على الحافظ مفصِّلاً وعلى غيره ممن سبقه أو قلده من المقلدين كالتويجري وغيره ممن خالفوا التحقيق العلمي وأقوال الأئمة الآخرين- ومنهم الإمام أحمد رحمه الله كما يأتي- ولذلك لم يسع الحافظ إلا أن يصرح في مكانه آخر من " الفتح" بقوله (1/550):

 

" وهو حديث مختلف في صحته".

 

فهل علم الشيخ التويجري بهذا النص من الحافظ أم جهله؟‍ فأن كان الأول فلماذا اكتفى –كلما ذكر هذا الحديث- بذكر من صححه من المتساهلين والرد على من خالفه بقوله (ص154):

 

" ولا يلتفت إلى من قدح فيه بغير حجة معتمدة"‍!

 

كذا قال – هداه الله- وهو يشير بذلك إلى الرد عليّ فإني كنت ضعّفت الحديث بالجهالة في " الإرواء" في المكان المشار إليه آنفاً. أهكذا يكون الرد يا فضيلة الشيخ؟! أهذا هو سبيل العلماء؟! لو

 

أرأيت لو أن رادّاً رد عليك كتابك الذي ترد فيه على مخالفتك أو رد على من قلدك بغير علم ولا كتاب منير فألف رسالته التي سماها:" اللباب في فريضة النقاب" بمثل قولك هذا أيكون محقّاً في رده أم جاهلاً، كذاك الدكتور-زعموا-الذي ألف في الرد عليك- أو على مقلِّدك المشار إليه- كتاباً سماه " تحريم النقاب"؟! لا شك أنه فعل فعلتك هذه أو نحوها من المكابرة والادِّعاء، أقول هذا وإن كنت لم أطلع على كتابه، ولكني وقفت على نُتَفٍ منه مردوداً عليه في" مجلة التوحيد" التي تصدرها جماعة أنصار السنة في القاهرة/ العدد السابع سنة (1411)

 

لقد كان المفروض- يا فضيلة الشيخ!- أن تنصح لقرائك، وتحكي حجة وخالفك وتقرع الحجة بالحجة، كما يقتضيه علم مصطلح الحديث، وليس على سبيل المقلدين فعلهم المثل المعروف:" عنزة ولو طارت"!

 

وفي ظني أن الشيخ قال تلك الكلمة الهزيلة لعدم علمه بمن سبقني إلى تضعيف الحديث وإعلاله بنبهان وإلا لما أجاز لنفسه أن يقولها وهو يصيب بها أئمة لهم وزنهم- حتى عند أمثاله من المقلدين الذين ليس لهم معرفة بهذا العلم الشريف- مثل الإمام أحمد- كما سبقت الإشارة إليه- ومن تبعه من العلماء الحنابلة فضلاً عن غيرهم وهذا أوان الوفاء بما أشرت:

 

قال الإمام أبو محمد بن قدامة المقدسي في " المغني" وأبو الفرج بن قدامة المقدسي في " الشرح الكبير"

 

والشيخ منصور بن يونس البهوتي في كتابه القيم" شرح منتهى الإرادات" (3/6) و" المنتهى" للشيخ محمد تقي الدين بن النجار الفتوحي، وكلهم من كبار علماء الحنابلة، فقال الشيخ منصور-وما بين الهلالين للشيخ تقي الدين، ونحوه عن المقدسيين-:

 

" (و) يباح (لا امرأة نظرٌ من رجل إلى غير عورة) (كما وُجِدت) لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس:" اعتدى في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فلا يراك". وقالت عائشة:" كان رسول الله صلى الله وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المجسد ". متفق عليهما. ولأنهن لو مُنِعنَ النظر لوجب على الرجال الحجاب كما وجب على النساء لئلا ينظرن إليهم. فأما حديث نبهان عن أم سلمة قالت: (قلت: فذكر الحديث كما تقدم، ثم قال:) قال أحمد: نبهان روى حديثين عجيبين: هذا الحديث، والآخر:" إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه"، كأنه أشار إلى ضعف حديثه، إذ لم يرو إلا هذين الحديثين المخالفين للأصول. وقال ابن عبد البر: نبهان مجهول لا يعرف إلا برواية الزهري عنه هذا الحديث وحديث فاطمة صحيح فالحجة به لازمة. ثم يحتمل أن حديث نبهان خاص بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال أحمد وأبو داود".

 

وذكر الشيخ البهوتي رحمه الله نحو هذا في كتابه الآخر (2/140)، لكنه أوضح ما عزاه لأحمد من الخصوصية فقال:

 

" قيل لأحمد: حديث نبهان لأزواجه صلى الله عليه وسلم وحديث فاطمة لسائر الناس؟ قال:نعم".

 

وزاد ابنا قدامة المقدسيان:

 

" وإن قدر التعارض فتقديم الأحاديث الصحيحة أولى من الأخذ بحديث مفرد في إسناده مقال".

 

وما عزّوه لأبي داود ثابت في بعض النسخ من " سننه"، كما في نسخة " عون المعبود" قال أبو داود:

 

"هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم…".

 

وخلاصة الكلام على هذا الحديث أن الشيخ ومقلديه قد خالفوا – لضيق فقهم العلمي –الإمام أحمد ومتَّبعيه من الحنابلة الكبار وغيرهم حديثياً وفقهياً.

 

أما الأول، فلأنهم صححوا الحديث وهو عند أحمد وغيره ضعيف معلَّل بالجهالة، ولم يتنبه لها ابن القطان في" نظره" (66/1) فإن من عادته أن يعلَّ الحديث بمثلها بل وبالجهالة الحالية عنده كما فعل بحديث أم صبية:" اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضوء من إناء واحد" وهو حديث صحيح مخرج في" صحيح أبي داود" (71).

 

وأما الآخر، فلأنهم حملوه على عموم النساء وهو خاص بنسائه صلى الله عليه وسلم وهو الذي استحسنه الحافظ في " التلخيص" وقال:

 

" وبه جمع المنذري في حواشيه، واستحسنه شيخنا".

 

 وأما غير الحنابلة، فقال القرطبي في "تفسيره":" هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لأن راويه نبهان ممن لا يحتج بحديثه".

 

فما الحيلة مع الشيخ الذي يأخذ من الأقوال ما يشتهي ولو تبين خطؤها ومخالفتها لقواعد العلماء؟!

 

هذا، ولا بد لي من التنبيه على بعض تدليسات وتضليلات ومشاغبات الشيخ عبد القادر السندي في" حجابه" واستغلاله لزلات بعض العلماء وإعراضه عن تطبيقه لقواعدهم العلمية التي وضعوها لمن بعدهم ليلتزموها ويسلِّموا قيادة عقولهم لها لا لينحرفوا عنها إلى تقليدهم فيما خالفوا فيه قواعدهم كما فعل في ترجمة السبيعي وغيره في حديث الخثعمية (ص26) فأقول:

 

أولاً: كرر مرتين في صفحة واحدة (49) زعمه أن إسناد هذا الحديث صحيح! ثم أكَّد ذلك في الصفحة التي بعدها! مذكراً بالمثل المعروف: " عنزة ولو طارت" ! لأنه مجرد دعوى لم يثبتها بترجمته لرواية نبهان على الأقل وما قاله كل أئمة الجرح فيه، دون الاقتصار على نقل التوثيق دون التجهيل ويؤكد هذا ما يأتي.

 

ثانياً: كتم قول الحافظ في "التقريب":"مقبول" لأنه يعلم أنه يعني به أنه لين الحديث وأنه يعارض قول الحافظ في "الفتح" فيه، والذي لا وجه له في العلم كما تقدَّم.

 

ثالثاً: قال عقب قوله المشار إليه في " الفتح":

 

" ونقله العلامة المباركفوري في " تحفة الأخوذي" وأيَّده"!

 

وهذا كذب على المباركفوري لأنه لا يلزم من مجرد النقل التأييد- كما لا يخفى على أهل العلم – ولا سيما وأنه قد نقل قول الحافظ في" التقريب"- وإن لم يشر إليه-:" نبهان مقبول من الثالثة"، نقله هذا في أول شرحه للحديث وقول " الفتح" في آخره فإن كان هذا تأييداً فذاك تأييد أيضاً، فالمباركفوري مجرد ناقل، ولم ين في صدد البحث والتحقيق ليرجِّح قولاً على آخر بخلاف السندي، ولذلك كتم قول " التقريب" لأنه يستلزم ضعف الحديث، لعلم السندي بأنه يعني أن نبهان لين الحديث، لأنه ليس له متابع، ولذلك فهو يجري على القاعدة اليهودية المشؤومة:" الغاية تبرر الوسيلة"! ولولا ذاك لنقله أيضاً، وحاول التوفيق بينهما، ولكنه لما كان يعلم – فيما أظن- أن الجرح مقدم على التعديل- وبخاصة إذا كان التعديل يحتاج إلى تعديل –رأى أن التولي والهرب نصف الشجاعة- كما يقال في بعض البلاد- فكان منه ذلك الكتمان! والله المستعان.

 

رابعاً: نقل السندي ترجمة نبهان من " تهذيبَي " المزِّي والعسقلاني، وفيهما: أن ابن حبان ذكره في "الثقات" ! موهماً القراء أنهما وثّقاه أيضاً وليس كذلك، كما هو معروف عند العلماء العارفين بأسلوبهما الذي هو مجرد نقل ما قيل في المترجم جرحاً وتعديلاً، ولذلك ألّف الحافظ كتابه المتقدم:" تقريب التهذيب" فإنه مجتهد فيه غير ناقل، يقدم فيه رأيه في المترجم بأقل ما يمكن من الألفاظ، والبحث في تحقيق هذا مما لا مجال له هنا، وحسب القارئ اللبيب المنصف مثالاً على ما ذكرت، أن الحافظ الذي ذكر في " تهذيبه" توثيق ابن حبان نبهان، لم يتبنَّ ذلك في " تقريبه"، بل ليَّنه بقوله فيه:" مقبول"، يعني: عند المتابعة، وإلا فليّن الحديث عند التفرد- كما هنا- هذا اصطلاحه فيه كما نص عليه في مقدمته.

 

خامساً: ثم نقل السندي من " تهذيب المزّي " الحديثين اللذين تعجب من ضعفهما الإمام أحمد- كما تقدم- أحدهما هذا الحديث:" أفعمياوان أنتما؟!" وقال عقبهما:

 

" قلت: يرى الإمام المزّي رحمه الله – كما علمت من سياق كلامه- أنه يحتج بهذه الأحاديث (كذا) التي رواها في ترجمة نبهان، ويرى أن نبهان ثقة يحتج بحديثه، كما نقل عن النسائي بأنه أخرج حديثه الثاني من وجوه أخرى".

 

قلت: فيه أربعة أكاذيب على الحافظ المزّي:

 

الأولى: أنه يحتج بالحديثين المشار إليهما- وقوله:" الأحاديث " من مبالغته التي لا يخفى على أحد!- وذلك لأن الحافظ لم يزد على ذكرهما بإسنادهما ليبيِّن أنه ليس عند أصحاب السنن غيرهما، ونقل عقبهما تصحيح الترمذي لهما، وليقول عقبهما:" فوقع لنا بدلاً عالياً"، فاستغل السندي ذلك وعزا إلى الحافظ أنه يحتج بهما! فصنيعه هذا مثل صنيعه المذكور في (رابعاً) والرد هو الرد نفسه.

 

الثانية: أن المزّي يرى أن نبهان ثقة، وهذا كالذي قبله، والرد هو المشار إليه آنفاً.

 

الثالثة: عزوه للمزّي أنه قال:" أخرجه من وجوه أخرى".

 

فهذا كذب محض أو تدليس خبيث، فإنما قال المزّي:" من وجوه أخرى عن الزهري"! وكنت أود أن أقول: لعله سقط من قلمه سهواً قوله:" عن الزهري" لولا أنه كرر ذلك مرة أخرى في الصفحة نفسها،وأنه لا فائدة من نقله الجملة بتمامها، بل هي حجة عليه، لأنها صريحة الدلالة بتفرد نبهان بالحديث فليتأمل العاقل ما يفعل الهوى أو الجهل بصاحبه، وفي أي واد سحيق يرديه. نسأل الله السلامة.

 

الرابعة: تجاهله مخالفته لحديث مسلم عن فاطمة ببنت قيس كما بيَّنه العلماء، وأصرح منه رواية الطبراني في" الكبير" بسند صحيح عنها قالت:

 

" وأمرني صلى الله عليه وسلم أن أكون عند أم مكتوم، فأنه مكفوف البصر لا يراني حين أخلع خماري".

 

 

 

 

فهذه أحاديث خمسة من الأحاديث الضعيفة التي يتداولها أكثر المؤلفين في تحريم وجه المرأة وكفيّها،وهم يختلفون في الإكثار والإقلال منها حسب توسع أحدهم في الموضوع وما يتصل به، وأوسعهم في ذلك الشيخ التويجري- هداه الله- فقد سن لهم سنة سيئة، فإنه حشد في كتابه كل ما عثر عليه من الأحاديث الواهية التي يتوهم أنها تقوي حجته، ولا يشعر أنها في الواقع تَفُلُّ " صارمه" وتجعله ينبو ويكلّ عن القيام بما كان يرمي إليه! وقد بلغ عددها قرابة خمسين حديثاً مرفوعاً- أو تزيد- منها الضعيف، والمنكر جدّاً، والموضوع.

 

ومن المفيد أن أقدم إلى القراء الكرام نماذج منها، ليكونوا على علم بها أولاً وليعرفوا حقيقة علم الشيخ ومن سار مسيرته ثانياً دون الكلام على أسانيدها مكتفياً بالإحالة إلى كتابي الذي خرجته فيه وتكلمت عليه مفصلاً.

 

1- " قول فاطمة رضي الله عنها لما سئلت: ما خير للنساء؟ فقالت: أن لا يرين الرجال ولا يرونهن. (ص30) ". " سلسلة الأحاديث الضعيفة"

 

2- " ما من امرأة تنزع خمارها في غير بيت زوجها، إلا كشفت الستر فيما بينها وبين ربها (ص31) ". " الضعيفة"

 

والحديث صحيح بلفظ:"ثيابها" مكان " خمارها" وهو ثابت في عدة روايات ذكرها الشيخ نفسه فلماذا ذكر الشيخ هذا اللفظ المنكر:

 

"خمارها"؟! ألم يعلم أنها مخالفة ليس فقط للروايات الأخرى بل ولقوله تعالى في آية النور:{ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن…} إلى أن قال:{ أو نسائهن}؟! لأن المقصود بالحديث نزع ثيابها كلها في حمام السوق- كما هو مشروح في " آداب الزفاف"- أما أن ترفع خمارها في غير بيت زوجها أمام النساء المسلمات، فلآية صريحة بذلك وسترى في الحديث التالي.

 

3- " عورة الرجل على الرجل… وعورة المرأة على المرأة كعورة المرأة على الرجل. (ص38) ". " الضعيفة"

 

 ثم فسر الشيخ معناه ثم نقل (ص41) عن النووي أنه قال:

 

" وعورة الرجل مع الرجل ما بين السرة والركبة وكذلك المرأة مع المرأة".

 

وأقره الشيخ على ذلك، وأشاد به في فهرس كتابه وذلك مثل محمد كلكل الذي سمى كتابه " فقه النظر" (ص138) ! ولا فقه ولا نظر! وانظر التعليق (1) (ص128).

 

وهو من العجائب التي يحار المسلم الذي أنجاه الله من الجمود على المذهب كيف يقولون بأن عورة المرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة؟! فإن هذا مع كونه مما لا أصل له في الكتاب والسنة بل هو خلاف قوله تعالى في آية النور"{ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن …} إلى قوله تعالى: { أو نسائهن}، فإن المراد مواضع الزينة، وهي: القرط والدملج والخلخال والقلادة، وهذا باتفاق علماء التفسير وهو المروي عن ابن مسعود وذكره الشيخ التويجري نفسه في كتابه (ص156).

 

فهذا النص القرآني صريح في أن المرأة لا يجوز لها أن تُبدي أمام المسلمة أكثر من هذه المواضع فهل الشيخ يرى أن من مواضع الزينة المذكورة في الآية: صدرها وظهرها وخصرها؟! والله، لقد احترت في هذا الشيخ الذي يجمع في ذهنه بين المتناقضات ! فيشتد على المرأة تارة فيبيح لها ما حرم الله من إبدائها لأختها المسلمة ما فوق سرتها! الأمر الذي لم يقع فيه بعض الحنفية المتهمين بالأخذ بالرأي، فلم يقولوا بقول الشيخ هذا، فلم يبيحوا الظهر والبطن، لأنها ليست بمواضع الزينة، كما في " البحر الرائق" (8/220) ومما زادني حيرة أنه بذلك خالف أيضاً رواية ابن مسعود التي عليها المفسرون، وارتضاها الشيخ (ص156) لأنها في رواية أخرى عنه توافق تشدده المذكور ! فهل هو الجهل أو التجاهل واتباع الهوى؟!

 

لست أدري والله! وقلَّده في الأمرين الأخ العدوي في "حجابه" و "أحكامه" (16-17)، مع علمه وهو ومقلِّده بكثرة المفاسد التي تترتب من تكشف النساء أمام النساء المسلمات بل وأمام الذمّيات أيضاً، بل وأمام الرجال المحارم أيضاً على " مذهب" التويجري!

 

4- " إن النساء سفهاء، إلا التي أطاعت قيِّمها. (ص68) ".

 

"الضعيفة" (436).

 

5- " هلكت الرجال إذا أطاعت النساء. (ص68 أيضاً) ".

 

" الضعيفة".

 

6- " ما من صباح إلا وملكان يناديان: ويل للرجال من النساء، وويل للنساء من الرجال. (ص70) ".

 

" الضعيفة" (2018).

 

7- " اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن إبليس طلاعٌ رصاَّد، وما هو بشيء من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء من النساء. (ص71) ".

 

وهذا من موضوعاته! " الضعيفة" (2065).

 

8-" النظرة الأولى خطأ، والثانية عمد، والثالثة تدمّر. نظر المؤمن إلى محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم… الحديث. (ص137) ".

 

موضوع أيضاً، وتمام الحديث ضعيف. " الضعيفة" (5970).

 

8- " نهى أن يحدَّ الرجل النظر إلى الغلام الأمرد. (ص 139) ".

 

9- موضوع أيضاً." الضعيفة" (5969).

 

01- " من قعدت منكنَّ في بيتها، فأنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله. (ص248) ".

 

" الضعيفة" (2744).

 

هذه نماذج من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي هي بعضٌ مما سوَّد به التويجري كتابه، وهي قلّ من جلّ كما أشرت آنفاً،وتقدمت نماذج أخرى من قبل.

 

وإليك مثالاً آخر من نوع جديد يحاول فيه تقوية حديث لقيس بن زيد، استدل به مشروعية استتار النساء عن الرجال- وهو مما لا نزاع فيه، خلافاً لما يوهم به قرّاءه- فيه تجلبب حفصة بعدما طلقها صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ (ص182-183) هداه الله وعلَّمه:

 

" رواه الطبراني، قال الهيثمي: ورجاله رجال " الصحيح". قلت: ورواه ابن سعد والحارث بن أبي أسامة بأسانيد صحيحة، وهو حديث مرسل على الصحيح، وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه الحاكم وغيره".

 

قلت: هذا تخريج الشيخ وهو على اختصاره فيه خربشات عجيبة:

 

أولاً: قوله: "بأسانيد صحيحة". باطل من ناحيتين:

 

الأولى: أنه ليس له إلا إسناد واحد.

 

والأخرى: أن هذا الإسناد نفسه ليس بصحيح، فقد أعلّه ابن عبد البر والحافظ بالإرسال، كما هو مذكور في الكتاب (ص86) والشيخ نفسه يقول به !

 

ثانياً: كيف يكون له أسانيد صحيحة وهو يقول عقبه مباشرة:

 

" وهو حديث مرسل على الصحيح"؟!

 

هذان قولان متناقضان لا يجتمعان في مخِّ أحد شمَّ شيئاً من رائحة هذا العلم الشريف، والأمر واضح جداً لا يحتاج إلى بيان.

 

وبناء على ما تقدم، إلا يحق لي أن أقول: فمن كان هذا حاله في الجهل بعلم الحديث، وعجزه عن معرفة الحديث الصحيح والضعيف-ولو من طريق التقليد الذي هو الجهل بعينه كما يقول العارفون- فما له ولإدخاله نفسه في زِمرة العلماء والفقهاء، بل والرد عليهم وتسفيه آرائهم؟! لا أعني نفسي- وإن كنت أرجو أن أحشر معهم- وإنما أعني جمهور العلماء من السلف والخلف الذين تجاهل الشيخ قولهم المبطل لقوله هو، كما تقدم بيانه فيما سلف، وقلد ذكَّرني حاله هذا معهم بقول الشاعر:

 

وابن اللبون إذا ما لُزِّ في قرن * لم يستطع صولة البُزل القناعيس

 

 

 

 

 

البحث الثامن: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها وكفيها

 

 

وقي البحث التالي ما يؤكد ما تقدم آنفاً من جهل الشيخ- ومن جرى مجراه- بعلم الحديث، وطرق نقده تصحيحاً وتضعيفاً حسب القواعد العلمية الصحيحة، وتعصبهم على حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها وكفيها".

 

أقول وبالله أستعين:

 

لقد تهافت القوم على نقد هذا الحديث وتضعيفه، مخالفين في ذلك من قوّاه من حفاظ الحديث ونقاده: كالبيهقي في "سننه"، والمنذري في " ترغيبه"، والذهبي في " تهذيبه"، وغيرهم، وقد اختلفت أساليبهم في ذلك فمنهم من قنع بذكر طريق واحدة وتضعيفها، ومنهم من زاد على ذلك كما سنرى، ولكنهم جميعاً اتَّفقوا على نقل ما قيل في الراوي من الجرح دون التوثيق، بل إن بعضهم دلَّس وأوهم أنه ليس هناك موثّق، بل وأنه في منتهى درجة الضعف بحيث أنه لا يُستَشهَد به، وهذا كذب محض كما اتفقوا جميعاً على مخالفته قاعدة العلماء في تقوية الحديث بالطرق والآثار السلفية، الأمر الذي أكد لي أنهم في هذا العلم، ولئن كان فيهم من هو على شيء من المعرفة به، فقد جار على السنَّة، وحاد عن الحق اتباعاً للآباء والمذاهب.

 

وبيان ذلك من ثلاثة وجوه:

 

الأول:أنني مع كوني قد خرَّجت الحديث في كتابي هذا من حديث عائشة، وأسماء بنت عميس وقتادة، ومبيناً علة إسنادي الأوَّلين، وإرسال الثالث، فأن جمهوركم كتم هذه الحقيقة، وأوهموا قراءهم أنني إنما استدللت بحديث عائشة وَحدهُ فقط، وأني ما بيّنت ضعف سنده وليس كذلك كما هو الكتاب مسطور، ويأتي بيانه الآن ومن أولئك الجمهور: الشيخ التويجري، وابن عُثيمين، والشنقيطي في " الأضواء" (6/ 197)، وغيرهم ولقد كان الواجب عليهم- لو أنصفوا- أن يبيِّنوا نقطة الخلاف بيني وبينهم وأن لا يوهمهم خلاف الواقع! فيحملوا وزر ممن يصرِّح كمؤلفة " حجابك أختي المسلمة"، فقد قالت (ص33):" أما الفئة التي أجازت كشف مقلّدة للتويجري في هذا النفي (ص 236) ويبدو من تعريفها للحديث المرسل أنها لا تَفقه شيئاً من علم المصطلح البتة!

 

الثاني: أنه لا يجوز لهم أن يقتصروا على تقل أقوال الجارحين للراوي دون أقوال المخالفين لهم، ولا سيما وهو في صدد الرد على مخالفيهم، فإنه ينافي الأمانة العلمية المنوطة بهم كما هو ظاهر،وقد توليَّ كِبرَ هذا الكتمان الشيخ عبد القادر السندي-هداه الله فإنه أضاف إليه أنه أوهم القراء أن الكتمان ممن صنيع الذهبي وهو منه بريء، كما أنه لم يذكر من الأحاديث الثلاثة- تبعاً للشنقيطي والتويجري وابن عثيمين – إلا حديث عائشة! فقال بعد أن ذكر انقطاعه المعروف (ص 13-14):

 

" قلت: في إسناده علَّة أخرى قادحة، وهي أن سعيد بن بشير منكر الحديث قال الإمام الذهبي…".

 

ثم سوّد ستة أسطر كلها من عبارات الجرح وعلق عليها عازياً:

 

"ميزان الاعتدال للإمام الذهبي 128/2"!

 

فأقول: إذا رجع القراء إلى هذا المصدر الذي منه نقل السندي تلك العبارات وجد العجب العجاب والجرأة الغريبة في التدليس والتضليل فإنه ترك من " الميزان " ما يختلُّ به ميزان النقد والاعتدال فيه! وإليك بعضاً مما ترك هداه الله!

 

1- وقال أبو حاتم:" محلُّه الصدق".

 

2- وقال شعبة:" صدوق اللسان".

 

3- وقال ابن الجوزي:" قد وثقه شعبة ودحيم".

 

4- وقال أبو حاتم:" يحوِّل من (كتاب الضعفاء) ".

 

5- قال ابن عدي:" لا أرى بما يروي بأساً…".

 

هذه الأقوال كلها مما كتمه الشيخ السندي- هداه الله- عن قرائه، وهي كلها في"الميزان" الذي نقل منه ما تقدم من الجرح، فعل ذلك ليتسنى له أن يختم تلك العبارات الجارحة بقوله:

 

" هذه الرواية لا تصلح أن تكون صالحة للمتابعات والشواهد… فيكون إسناد هذا الحديث ضعيفاً جدّاً".

 

هذا هو بيت القصيد- كما يقال- من كتمانه لعبارات التوثيق هذه لأنها تَحول بينه وبين التضعيف الشديد الذي تبناه في نفسه سلفاً، ثم أخذ من كلام الذهبي ما يوافقه، ولم يكتف بما يبق من التدليس والتزوير، بل زاد- ضغثاً على إبّالة- فقال عقب قوله الآنف:

 

" راجع المراجع الآتية:" الكامل" لابن عدي … وغيرها من كتب الرجال حتى تقف على الرجل، والله المستعان".

 

قلت: وذكر مع " الكامل" سبعة مصادر أخرى، فإذا رجع القراء إلى بعضها وجدوا خلاف ما يعنيه من التضعيف الشديد، فمنها:

 

1-:" التاريخ الكبير" للبخاري، قال (2/1/460):

 

" يتكلمون في حفظه".

 

زاد فيه ابن عساكر في " التاريخ" (7/215- المصورة)، " والتهذيب":

 

" وهو محتمل".

 

2- " الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، فإذا رجعت إليه وجدت فيه:

 

أولاً: عن ابن عيينة:"كان حافظاً".

 

ثانياً: عن أبي زرعة الدمشقي قال: سألت دحيماً: ما كان قول من أدركت في سعيد بن بشير؟ فقال:

 

" يوثقونه، وكان حافظاً".

 

ثالثاً: قال أبي وأبو زرعة:

 

" محله الصدق عندنا".

 

رابعاً: سمعت أبي ينكر على من أدخله في "كتاب الضعفاء"، وقال: " يحوَّل منه".

 

3- "الكامل" لابن عدي، ختم ترجمته بقوله (3/376):

 

" ولا أرى بما يروي الوليد بن مسلم عنه بأساً، ولعله يَهِمُ في الشيء بعد الشيء ويغلط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق".

 

4- " الضعفاء" لابن الجوزي قال فيه (1/325) - بعد أن حكى أقوال مضعِّفيه-:

 

" وقد وثَّقه شعبة ودحيم".

 

قلت: وهناك مصادر أخرى أشار إليها السندي بقوله:" وغيرها" ومنها:

 

5- " تهذيب التهذيب" قال فيه: قال البراز:

 

" وهو عندنا صالح، ليس به بأس".

 

6- "الكاشف " للذهبي، قال:

 

" قال البخاري: يتكلمون في حفظه، وهو محتمل. وقال دحيم: ثقة، كان مشيختنا يوثِّقونه".

 

ولم يذكر الذهبي شيئاً من أقوال مَن جرحه، فهذا معناه أنه مقبول عنده، ويؤيده أه أورده في كتابه:" معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد" (ص112/144):

 

" وثقه شعبة وغيره، وقال البخاري: يتكلمون في حفظه، وقال النسائي: ضعيف".

 

قلت: فهذه النصوص من هؤلاء الأئمة- ومن المصادر التي أحال السندي القراء إليها- يؤكد بكل وضوح أنه كان يدلس على القراء لأنها لا تدل على أن سعيداً هذا ضعيف جدّاَ لا يصلح للاستشهاد به، بل هي إن لم تدل على أنه وسط يستدل بحديثه، فهي على الأقل تدل على أنه يعتبر ويتقوّى به، وهذا ما صرّح به الزيلعي، فقال في" نصب الراية" (1/74) - بعد أن ذكر بعض ما قيل فيه مما تقدم-:"وأقلّ أحوال مثل هذا أن يستشهد به".

 

قلت: وهذا مطابق تماماً لما جرينا عليه في " الحجاب" من تقوية حديثه، وأنه صالح للاستشهاد به، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

والخلاصة: أنني لا أريد مما سبق إلا بيان ما فعله المشايخ- وبخاصة السندي منهم، فضلاً عمّن قلدهم وألّف في تضعيف الحديث-من كتمان الأقوال الموثّقة لسعيد والمقوّية لحاله، وأنه صالح الاستشهاد به. والله الموفق.

 

الثالث: أنهم جهلوا أو تجاهلوا أن سعيد بن بشير هذا لم يتفرد بمتن هذا الحديث، بل قد تابعه عليه ثقة حافظ عند أبي داود في " المراسيل" (310/437) بسنده الصحيح عن هشام عن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره نحوه.

 

وهشام هذا هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، وهو ثقة ثبت من رجال الشيخين.

 

قلت: فهذه متابعة قوية من هشام لسعيد تدل على أن سعيداً قد حفظ متن الحديث وأخطأ في إسناده إلى عائشة لمخالفة هشام إياه، فإنه لم يجاوز به قتادة، فيكون إسناده مرسلاً صحيحاً، لأن قتادة تابعي جليل، قال الحافظ في " التقريب":

 

" ثقة ثبت".

 

وحينئذ يجرى فيه حكم الحديث المرسل إذا كان له شواهد وهذا ما سيأتي بيانه، ومن جهل بعض المتعلقين بهذا العلم، أنه بعد أن ضعَّف رواية سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة تضعيفاً شديداً عاد يعتمد عليها ليضرب بها رواية قتادة هذه الصحيحة المرسلة، فقال:

 

" فإن قتادة قد روى الحديث عن خالد بن دريك عن عائشة، فلا يمتنع أن يكون أسقط خالداً وعائشة، فذكر الحديث مرسلاً، إذ أن قتادة مدلس"! كذا قال العدوي في " حجابه" (71) وتبعه العنبري في كتيبه (ص25).

 

فتأمّل كيف جزم برواية قتادة عن خالد… بعد أن ضعفها جدّاً، فتأول بها رواية هشام عن قتادة الصحيحة؟! أليس هذا من قبيل اللعب على الحبلين أو الكيل بكيلين؟!

 

أما نحن، فقد رجحنا رواية هذه المرسلة لقوة إسنادها اتباعاً لعلم الحديث، وإن كنا نعتقد أن ذلك لا يوهن من حجتنا شيئاً لأن كلاً من الرواية المرسلة والمسندة تؤيد الأخرى متناً، ويشهد لهما الحديث الثالث عن أسماء بنت عميس المذكور في الكتاب (58) وقلد صنع فيه العدوي ما صنع السندي في حديث عائشة! فقد أعلن (ص 70) أن ضعفه شديد، ثم بيَّن له ثلاث علل ليس فيها ما يؤيد المذكور:

 

 الأولى: ابن لهيعة. وكنت ذكرتها في " الحجاب" وبينت أنه يستشهد به، وهو الذي عليه العمل عند الحفاظ كابن تيمية رحمه الله، كما سيأتي (ص96).

 

الثانية: عياض بن عبد الله. فذكر اختلاف العلماء فيه، وأن أكثرهم ضعفه، وهذا كما ترى لا يعني أنه شديد الضعف بل هو كابن لهيعة، كما يدل على ذلك قول الحافظ في " التقريب": " فيه لين". ولذلك تحاشاه العدوي!

 

الثالثة: قول الراوي:" أظنه عن أسماء …". قال:" هذا يوهن السند"!

 

فأقول: كلا، لأن المراد: الظن الراجح، وهو مما يجب العمل به-كما هو مقرر في علم الأصول- على أن القول المذكور إنما جاء في الرواية البيهقي فقط، خلافاً لرواية الطبراني في "المعجم الأوسط"، والطريق واحدة، خلافاً لروايته في "المعجم الكبير" من طريق أخرى عن ابن لهيعة.

 

ثم هب أن هذا القول في الرواية، فمن أين لك أنها تعني الضعف الشديد زعمته؟! إذ المعنى المتبادر أنه يظن- أعني: الراوي- أن الحديث عن أسماء أو غيرها من الصحابة، وأسوأ الاحتمالات أنه لا يدري هل هو مسند عن صحابي أو مرسل؟! فهل ذلك يجعل الإسناد ضعيفاً جداً؟! أم هي الأهواء التي تُعمي وتُصم؟! ولعله مما يؤيد ما ذكرته من الظن الراجح أن عبيد بن رفاعة الراوي عن أسماء معروف بروايته عنها من غير هذه الطريق في " السنن الأربعة" و "المسانيد" وغيرها، وله فيها حديث كنت خرجته في" سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم (1252) وغيره.

 

ثم جاء من بعد العدوي من قلَّده في زعمه بشدة في العلّتين الأوليين دون الثالثة، وكأنه بدا له أنه لا قيمة لها، وأنها ليست بعلّة مطلقاً، ولكنه زعم علة أخرى هو فيه أبطل من مقلده، فزعم أن عبيد بن رفاعة مجهول لم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، ذاك هو العنبري إذ قال في كتيبه (ص16):

 

" ولا يخفى أن توثيقهما رخو لا يعتمد عليه".

 

كذا قال أصلحه الله فإن الرخاوة التي زعمها ليست على الإطلاق وإنما في توثيق من لا يعرف إلا برواية الواحد والإثنين كما حققه في غير هذا الموضع، وعبيد هذا ليس كذلك فقد روى عنه جمعة من الثقات كما ترى في التهذيب ووثقه الذهبي في التلخيص، وصحح له الترمذي والحاكم، ثم هو إلى ذلك تابعي ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل قيل بصحبته، فالعجب بهؤلاء الناشئين المغرورين بأنفسهم وجرأتهم وتسرعهم في إصدار الأحكام على الرواة وغيرهم بما لم يسبقوا إليه من الحفاظ والنقاد!الأمر الذي يذكرنا بالمثل المعروف:" تزبّب قبل أن يتحصرم"! على أنه لو سلمنا بجهالة عبيد هذا، فذلك لا يمنع من الاستشهاد به، كما سيأتي في كلام ابن تيمية ص97-87)

 

ومن ذلك أن المومئ إليه انتقد صاحبنا علي الحلبي لأنه استشهد في تقوية حديث عائشة بقول الحافظ في "التلخيص": وله شاهد أخرجه البيهقي…" وذكر إسناده بحديث أسماء وسقوط الحافظ عليه، فقال صاحبنا عقبه (39):

 

" كأنه يحسنه به، كما هو معروف من منهجه رحمه الله تعالى، إذ لا يورد شاهداً إلا لما ينجبِرُ عنده، و إلا فماذا يفيده الشاهد إذا كان غير نافعه؟!".

 

فانتقده المومى إليه بما خلاصته (ص16): أن المحدثِّين الأقدمين منهم والمعاصرين ما زالوا يذكرون الحديث الضعيف أو الموضوع، ويوردون شواهده التي لا تزيده إلا وهناً على وهن، ولم يقل أحد: إنهم بذلك يحسِّنون الحديث! ثم ذكر ستة أمثلة على ذلك: أحدهما من" اللآلي " للسيوطي، والأخرى من كتابيَّ " الضعيفة" و" الإرواء"! ثم أجاب عن سؤال طرحه هو، خلاصته: أن إيراد المحدِّثين للطرق الضعيفة إنما هو من اجل التنبيه على ضعفها!

 

قلت: وهذا انتقاد باطل يدل على جهل بالغ بهذا العلم الشريف وأصوله، فإن تقوية الحديث بكثرة الطرق- بشرط أن لا يشتد ضعفها- أمر معروف وسبيل مطروق عند علماء الحديث، لا حاجة للاستدلال له، وهو الحديث الحسن لغيره الذي يكثر الترمذي من ذكره في " سننه"، وتحدث عنه في "العلل" الذي في آخره (10/457)، وكتبي طافحة بهذا النوع من الحديث والتذكير به، ولا سيّما " الصحيحة" منها، وكذلك النقل عن كتب التراجم، وتفريقهم بين الراوي الضعيف، والأمثلة التي ذكرها تختلف كل الاختلاف من ناحيتين:

 

إحداهما: أنها- أعني: الأمثلة- شديدة الضعف، فلا تصلح للشهادة.

 

والأخرى: أن الذين أوردوها أتبعوها ببيان شدة ضعفها، فأين هذا من صنيع الحافظ رحمه الله تعالى الذي رده المومى إليه؟! فأن الحافظ لم يتبيّن ضعفه، ولو فعل لم يصح تشبيهه بتلك الأمثلة لأنه ليس شديد الضعف. وأما جوابه المذكور، فهو مما يؤكد جهله بهذا العلم لأنه لم يبين سبب التنبيه على الضعف يسيراً، وتعددت طرقه، تقوى الحديث، ووجب العمل به، كحديثنا هذا، وإلا كان غريباً لم يجر العمل به، بل ولا روايته إلا ببيان ضعفه، وهذا ما أخل به جماهير المؤلفين، فأنهم يتساهلون برواية الأحاديث الضعيفة دون بيان ضعفها، كما فعل التويجري في الأمثلة العشرة المتقدمة، وتجاهل هو وغيره هذا الحديث بطرقه، من جهة أخرى، والسندي والعدوي وغيرهما يعرفون هذا جيداً، ولذلك زعموا شدة ضعف طرقه، وقلدهم في ذلك المومى إليه- كما تقدم –دون أن يتنبه إلى ما يرميان إليه من الزعم المذكور!

 

ثم استدركت فقلت: بلى إنه قد تنبه لذلك، وتابعهم عليه قصداً فإنه لما تكلم على إسناد حديث قتادة المرسل قال (ص23):

 

" الحق أن الإسناد إلى قتادة صحيح نظيف جداً، وصواب أن المرسل إذا اعتضد بسند ضعيف، فإنه يصير صحيحاً محتجاً به، هذا حق لا جدال فيه، ولكن فات أولئك الذين يعتمدون هذا الكلام أن مراسيل قتادة ضعيفة لا تقوم بها حجة أبداً"!

 

ثم سود أكثر من صفحة بالنقل عن بعض اللائمة أنه لا يحتج بمرسل قتادة، وأنه بمنزلة الريح.

 

فأقول – والله المستعان على نابتة هذا الزمان-:

 

عدم الاحتجاج بمرسل قتادة ليس موضع خلاف، وإنما هو: هل يتقوى بالمسند الضعيف أم لا؟ هذا هو الموضوع، فنحن نرى تبعاً للبيهقي وغيره أن يتقوى، وهو صحيح قول المومى إليه:" وصواب…" إلخ، ولكنه حداثته لم يثبت عليه، فنقده بقوله:" ولكن فات أولئك.."! ولذلك رد بقلة أدب وجهل بالغ على البيهقي تقويته لمرسل خالد بن دريك الذي كنت نفلته عنه في "الكتاب" (ص59)، فقال هذا الحدَث (ص25):

 

" فليس قوياً، لأن المرسل ضعيف…".

 

فأقول: لم يفتنا –والحمد لله- ما زعمت، فإننا لم نحتج بمرسل قتادة، وإنما انضم إليه من الشواهد، كما كنا ذكرنا في "الجلباب" (ص58-59)، وإنما أنت الذي فاتك" صوابك" الذي قوَّى مرسل خالد بن دريك بقول الصحابة- يعني: ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة وغيرهم، كما تقدم (ص34 و 49-51) و (ص59) من " الجلباب" –فلم ترفع إلى ذلك رأساً، واستكبرت وقلت دون أدنى خجل:" هو معارض بقول من مضى الصحابة أيضاً؟،وقد سلف قول ابن مسعود رضي الله عنه"!

 

فأقول: هذه المعارضة تدلنا على أنك متطفِّل في هذا العلم، وأنك تعرف بما لا تعرف، فمن هم الصحابة الذين تعارض بقولهم قول الصحابة الذين أشار إليهم البيهقي؟! إنهم لا وجود لهم إلا في مخيِّلتك! فالمعارضة باطلة.

 

وأما قول ابن مسعود فقد سبق الجواب عنه في " الكتاب" (ص52-56)، ثم هو فرد خالفه جماعة، فإن صحَّحت المعارضة به فلا بد من مرجّح، وهو الحديث الذي عمل به مخالفوه، فبه يترجَّح قولهم على قول ابن مسعود، وتسقط المعارضة به، ويسلم قول البيهقي ومن تابعه،وهم جمهور الصحابة والأئمة، كما تقدم بيانه لا تجده في مكان آخر.

 

وتقوية المرسل بالشواهد أمر معروف لدى العلماء ولو كان النوع الذي لا يحتج به، كما قال أحمد:" ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح"- كما في " جامع التحصيل" للعلائي (102) - فالحسن:" لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ببعض ما قوينا نحن به حديث قتادة، فقال في كتابه:" أحكام القرآن" عقب هذا المرسل:

 

" وهذا وإن كان منقطعاً (يعني: مرسلاً) فأن أكثر أهل العلم يقول به، ويقول: الفرق بين النكاح والسفاح الشهود، وهو ثابت عن ابن عباس وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".

 

قال البيهقي:

 

" أكَّد الشافعي رضي الله عنه مرسل الحسن بشيئين:

 

أحدهما: أن أكثر أهل العلم يقول به.

 

والثاني: أنه ثابت عن ابن عباس من قوله".

 

قلت: وهذا الذي به الإمام الشافعي حديث الحسن المرسل يصدق تماماً على مرسل قتادة، فإنه قد عمل به أكثر العلماء- ومنهم الإمام أحمد في رواية كما تقدم-وهو في الوقت نفسه عن ابن عباس من قوله من طرق عنه صحيحة كما تقدم هنا، وفي " الكتاب" أيضاً، وأكدته في " البحث الخامس"، وانظر (ص49-51) من "البحث السابع".

 

وهناك مقوٍّ ثالث لحديثنا هذا يزداد به قوة على قوة، وهو أن له شاهدين مسندين من حدي عائشة وأسماء بنت عميس كما تقدم أيضاً.

 

ومقوٍّ رابع، وهو قول أو عمل رواته به، عائشة وأسماء بنت عميس، وقتادة.

 

1- أما عائشة، فقد صح عنها أنها قالت في المحرمة:

 

" تسدل الثوب على وجهها إن شاءت".وتقدم تخريجه (ص37)، وبه قال الأئمة الأربعة وغيرهم.2- 2-وأما أسماء، فقد صح: أن قيس بن أبي حازم دخل مع أبيه على أبي بكر رضي الله عنه وعنده أسماء، فرأياها امرأة بيضاء موشومة اليدين، كما تراه في الطبعة الجديدة لـ" الجلباب".وفد عارض هذا الأثر بعض من لا علم عنده من المقلِّدة بآية (الضرب بالخُمُر)، زاعماً بأنها تعني تغطية الوجه، وقد سبق إبطال ذلك بما لا مَزِيدَ عليه.كما زعم أن كشف يديها كان للذبِّ بها عن أبي بكر، هذه ضرورة!كذا قال المسكين! كأنه لا يعلم أنها لم تكن محرمة يحرم عليها القفازان! وأن الذبَّ المذكور يمكن أن يكون باليد الواحدة، فأين الضرورة المجوِّزة للكشف عن اليدين كلتيهما، والضرورة- لو كانت – فهي تقدَّر بقدرها كما يقول العلماء، ولقد ورث هذا وأمثاله من مقلدِّيهم تسليط سيف التعطيل على النصوص، وإبطال دلالاتها الصريحة، دفاعاً عن معاني مزعومة لا حقيقة لها! فهل من معتبر؟!

 

3- وأما قتادة، فقد قال في تفسير آية:{ يُدنين عليهِّن من جلابيبهنّ}:

 

"أخذ الله عليهن أن يُقَنِّعنَ على الحواجب".والمعنى: يشددن جلابيبهن على جباههنَّ، وليس على وجوههن كما فسره الإمام ابن جرير، وتقدم بيان ذلك.فأقول: هذه الحقائق لهذا الحديث قد تجاهلها أولئك المشايخ ومقلدوهم، فخالفوا بذلك جماهير العلماء من السلف والخلف، تفريعاً في قولهم وعملهم بنص الحديث، وخالفوا علماء الحديث تأصيلاً، وهو تقوية الحديث بالطرق والشواهد فإن هذا من أصولهم التي يتفرَّع منها تقوية بعض الأحاديث التي ليس لها سند صحيح يحتج به، فمن كان جاهلاً بهذا الأصل وبطرق الحديث والشواهد وقع فيه هؤلاء من تضعيف هذا الحديث الصحيح! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى" (18/25-26):" والضعيف نوعان: 6- ضعيف لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي، وضعيف ضعفاً يوجب تركه، وهو الواهي.وقد يكون الرجل عندهم ضعيفاً لكثرة الغلط في حديثه، ويكون الغالب عليه الصحة، (فيروون حديثه) لأجل الاعتبار به والاعتضاد به، فإنَّ تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضاً، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فُجَّاراً فساقاً، فكيف إذا كانوا علماء عدولاً، ولكن كثر في حديثهم الغلط؟! وهذا مثل عبد الله بن لهيعة، فإنه من كبار علماء المسلمين، وكان قاضياً في مصر، كثير الحديث، ولكن احترقت كتبه، فصار يحدث من حفظه، فوقع في حديثه غلط كبير، مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به، مثل ابن لهيعة".ولقد أبان ابن تيمية رحمه الله في كلمة أخرى عن السبب في تقوية الحديث الضعيف بالطرق، والشرط في ذلك، ووجوب التمسك بهذه القاعدة، فقال (13/347):" والمراسيل إذا تعددت طرقها، وخلت عن الموطأة قصداً، أو (كان) الاتفاق بغير قصد، كانت صحيحة قطعاً، فإن النقل إما أن يكون صدقاً مطابقاً للخبر، وإما أن يكون كذباً تعمّد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه، فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقاً بلا ريب.وإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات (قلت: كحديثنا هذا)، وقد علم أن المخبرين لم يتواطأ على اختلاقه، وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقاً بلا قصد، علم أنه صحيح، مثل شخص يحدث عن واقعة جرت، ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتيني شخص قد عُلم أنه لم يواطئ الأول، فيذكر ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال، فيعلم قطعاً أن تلك الواقعة حق في الجملة، فإنه لو كان كل منهما كذبها عمداً أو خطأً، لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه. قال: وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدى جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات وإن لم يكن أحدهما كافياً إما لإرساله وإما لضعف ناقله. قال: وهذا الأصل ينبغي أن يعرف فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي وما يُنقل من أقوال الناس وأفعالهم و غير ذلك.

 

ولهذا، إذا روي الحديث الذي يأتي فيه ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر، جزم بأنه حق لاسيما إذا علم أن نقلته ليسوا ممن يتعمد الكذب وإنما يخاف على أحدهما النسيان أو الغلط.

 

وذكر نحو هذا المقطع الأخير من كلامه رحمه الله الحافظ العلائي في" جامع التحصيل" (38) وزاد:

 

"فإنه يرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حظ الرواد ويعتضد كل منهما بالآخر". ونحوه في مقدمة ابن الصلاح ومختصرها لابن كثير ثم قال ابن تيمية رحمه الله تعالى (352)

 

" وفي مثل هذا يُنتفع برواية المجهول والسيئ الحفظ وبالحديث المرسل ونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث، ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره، ثم ذكر قول أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره، وضرب عليه مثلاً ابن لهيعة كما تقدم في كلامه السابق (ص96).

 

ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية مثالاً للمرسل الذي تَقوى بجريان العمل به وهو حديث محمد ابن الحنفية قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قُبل منه ومن أبى ضُرِبَت عليه الجزية على أن لا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة.

 

أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والطحاوي في المشكل (2/ 415- 416) والبيهقي (9/ 192و284-285) وقال: هذا مرسل وإجماع المسلمين عليه يؤكده. وقال ابن تيمية (32/ 188-189): وقد عمل بهذا المرسل عوام أهل العلم والمرسل في أحد قولي العلماء حجة كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي الأخرى حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم وظاهر القرآن أو أرسل من وجه آخر وهذا قول الشافعي فمثل هذا المرسل حجة باتفاق العلماء، قلت: ومرسل قتادة هذا الذي نحن في صدد الكلام عليه وبيان صحته، قد توفرت فيه هذه الشروط كلها وزيادة كما تقدم بيانه فينبغي أن يكون حجة باتفاق لا خلاف فيه، لولا العصبية المذهبية والأهواء الشخصية والجهل بهذا الأصل العظيم الذي أشاد به شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء الحديث وحفاظه،وأنقذوا به مئات الأحاديث من الضعف الذي يقتضيه مفردات أسانيدها، ومن أمثلة ذلك حديث صلاة التسابيح، فإنه قد تبين بعد تتبع طرقه أنه ليس له إسناد ثابت ولكنه صحيح بمجموع طرقه، وقد صححه أو على الأقل حسنه جمع من الحفاظ كالآجري وابن منده والخطيب وأبي بكر السمعاني، والمنذري، وابن الصلاح والنووي، والسبكي، وغيرهم، ومنهم البيهقي، فقد ساقه في " شعب الإيمان " (1/ 247) بإسناد ضعيف من حديث أبي رافع ثم قال:

 

" وكان عبد الله بن المبارك يفعلها، وتداولها الصالحون بعضهم من بعض، وفيه تقوية للحديث المرفوع. وبالله التوفيق"

 

وسبقه إلى هذا الحاكم، فقال في " المستدرك" (1/319):

 

" ومما يستدل به على صحة هذا الحديث استعمال الأئمة من أتباع التابعين إلى عصرنا هذا إياه، ومواظبتهم عليه، وتعليمه الناس، منهم عبد الله بن المبارك…".

 

ثم ساق إسناده بذلك إلى ابن المبارك، وقال عقبه:

 

" رواته عن ابن المبارك ثقات، ولا يتّهم عبد الله أن يُعَلِّم ما لم يصح ووافقه الذهبي.

 

قلت: ومن كلام هؤلاء الأئمة الأعلام في إثبات هذا الأصل العظيم – ألا وهو تقوية الحديث بالطرق والشواهد- وتطبيقهم إياه في النماذج المذكورة، فهو أكبر دليل على جهل هؤلاء المُضَعِّفين لهذا الحديث، فأكنهم لا يعلمون- أو يريدون أن لا يعلموا- وما يعرف عند العلماء بالحديث الحسن أو الصحيح لغيره، وما يعرف عند العلماء بالحديث الحسن أو الصحيح لغيره، وما مثلهم في ذلك- كما قال بعضهم- إلا كمثل قاض رفعت إليه قضية تحتاج إلى شهادة رجل وامرأتين، فشهدت امرأة فردَّها، لأن شهادتها على النصف من شهادة الرجل، فجاءت أخرى فشهدت بمثل شهادة الأولى، فردها أيضاً بنفس التعليل! هذا هو مثل هؤلاء. والله المستعان.

 

وهذه آفة أكثر الكتّاب اليوم الذين استسهلوا هذا العلم، فانطلقوا يصححون ويضعفون دون أن يعرفوا أصوله وقواعده، فقد رأيت أحدهم جاء إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في مالٍ زكاةٌ حتى يحول عليه الحول". فضعفه من طرقه الأربعة، وهو يعلم أن الحافظ ابن حجر وغيره قد قوَّاه، كما يعلم أن عمل الخلفاء الراشدين عليه، فلم يعبأ بذلك كله، مع أنه فاته طريق صحيح لم يتعرض لذكره، كنت أشرت إليه في تخريج الحديث في "الإرواء" (3/254/787)، وهو في " صحيح أبي داود" (1403)، فكان عليه أن يبحث عنه، وإلا سلّم لأهل العلم والاختصاص بحثهم وعلمهم.

 

ومن الغريب أن هذا وأمثاله من المعاصرين أشد النقمة على بعض الطلبة حين يجتهدون في بعض المسائل الفقهية- وليسوا أهلاً للاجتهاد- ثم ينسى هؤلاء الناقمون أنفسهم حين يقعون في مثل الذي أنكروا بتصحيحهم وتضعيفهم للأحاديث، وهم ليسوا من أهل الاجتهاد فيه! { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2و3).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحث التاسع: تفسير آية الزينة:{... إلا ما ظهر منها}.

 

بعد أن أثبتنا صحة هذا الحديث على منهج أهل الحديث وقواعد علمائه أولاً، وبتصريح بعضهم بقوته ثانياً، ودون مخالف لهم يذكر ثالثاً، أريد أن أبين لقرائنا الكرام أنه يصلح حينئذٍ أن يكون مبيناً لقوله تعالى: { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، فقوله صلى الله عليه وسلم فيه: " لم يصلح أن يرى منها" بيان لقوله تعالى: { إلا ما ظهر منها}، أي: وجهها وكفيها، فالمنهي في الآية هو المنهي في الحديث، والمستثنى فيها هو المستثنى في الحديث، وصدق الله العظيم القائل: { وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزِّل إليهم} (النحل: 44)، ومن هنا يظهر دقة فهم ترجمان القرآن ومن معه من الصحابة الكرام، حين فسروا الاستثناء فيها بالوجه والكفين، ولقد كان هذا خافياً حين ألّفنا الكتاب، ثم تبيَّنا ذلك في الطبعة الجديدة (ص51- 65) وههنا. فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

وبهذه المناسبة لا بد لي من سرد أسماء الصحابة المشار إليهم، مه ذكر بعض مخرجيها ومن صحح بعضها، ليعلم القراء جهل من خالفها، أو أنكر شيئاً منها، أو ضلل من تمسك بها!

 

1- عائشة رضي الله عنها. عبد الرزاق، وابن أبي حاتم " الدر المنثور "، و ابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه ابن حزم.

 

2- عبد الله بن عباس رضي الله عنه. ابن أبي شيبة،والطحاوي، والبيهقي، وصححه ابن حزم أيضاً، وله عنه كما سبق (ص 49- 51) سبعة طرق.

 

3- عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ابن أبي شيبة، وصححه ابن حزم.

 

4- أنس بن مالك رضي الله عنه. وصله ابن المنذر، وعقله البيهقي.

 

5- أبو هريرة رضي الله عنه. ابن عبد البر في " التمهيد".

 

6- المسور بن مخرمة رضي الله عنه. ابن جرير الطبري.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شبهات وجوالها:

 

وتتميماً للفائدة، لا بد لي من حكاية شبهات المخالفين حول هذا الحديث الصحيح، وبيان وهنها-بل بطلانها- فأقول:

 

 

 

 

 

 

 

الشبهة الأولى:

 

استبعد أحد الفضلاء- ثم قلده من لا علم عنده- أن تدخل أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق! وزاد على ذلك أحد أولئك المتعالمين المتهافتين على الكتابة فيما لا يحسنون، فسَوَّد سبع صفحات من كتيبه في بيان غيرة زوج أسماء- وهو الزبير ابن العوام- وحيائها هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراعاتها لحق زوجها، مما لا علاقة له بالموضوع أصلاً سوى التمويه، والمغالطة المقرونة بالمبالغة في رفع غير المعصوم إلى مرتبة العصمة! وبعد هذا نقول:

 

والجواب من وجهتين:

 

الأول: أن الاستبعاد المذكور ليس له علاقة بمتن الحديث الذي هو من قوله صلى الله عليه وسلم، وثبت عنه بمجموع طرقه وشواهده، وجريان العمل به من الصحابة ومن بعدهم كما تقدم، فلا يضرّه ولا يوهن من صحته أن يأتي في بعض طرقه ما يستبعد أو يستنكر، وسنده ضعيف كما كنت بينته في كتابي" الحجاب" سابقاً، وهنا أيضاً، فيترك هذا منه، ويستشهد بما فيه مما وافق الطرق الأخرى والشواهد، وقد أشار ابن تيمية رحمه الله إلى هذه الحقيقة التي غفل عنها المنكرون بقوله في كلمته الرائعة المتقدمة (ص97):

 

فيعلم قطعاً أن تلك الواقعة حق في الجملة".

 

يعني: ليس في التفاصيل التي لم تتفق الطرق عليها، فالمستبعد من هذا القبيل، كما هو ظاهر لكل ذي بصيرة.

 

ومن هذا المنطلق كنت قلت في "الإرواء" (6/ 203):

 

" فالحديث بمجموع الطريقين حسن ما كان منه من كلامه صلى الله عليه وسلم، وأما السبب، فضعيف لاختلاف لفظه في الطريقين كما ذكرت".

 

والوجه الآخر: استبعاد ذلك مكابرة مكشوفة طالما رأينا منهم أمثالهم، ذلك لأنه ليس في الشرع- ولا في العقل- مما يمنع من وقوع ذلك من أسماء أو غيرها، لانتفاء العصمة كما ذكرت آنفاً، كيف وقد استجاز النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع من عائشة المطهرة أخت أسماء ما يهوِّن ذكر ما استبعده هؤلاء عن أسماء، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في قصة الإفك:

 

" إن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه…" الحديث؟!

 

رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في " الصحيحة" (1208).

 

أضف إلى ما تقدم، انه ليس في حديث أسماء أنها لبست الثياب الرقاق تبرجاً ومخالفة للشرع، فلو أنه صح ذلك عنها- ولم يصح كما علمت – لوجب حمله على أنه كان منها عن غفلة أو لغير علم، فقد وقع نحوه لحفصة ابنة أخيها عبد الرحمن، فقالت أم علقمة بن أبي علقمة:

 

" دَخَلَتْ حفصة بنت عبد الرحمن على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حفصة خمار رقيق، فشقته عائشة وكستها خماراً كثيفاً".

 

أخرجه مالك في "الموطأ" (3/103).

 

فثنت من هذا البيان، أن ما استبعدوا غير مستبعد شرعاً ولا عقلاً، على أنه لم يثبت، وأنه لو ثبت لم يخدج في متن الحديث. والله ولي التوفيق.

 

وإن تعجب فعجب من هؤلاء، كيف يتعلقون بما لا يصح رواية ودراية لرد ما صح رواية ودراية إذا كان عليهم؟! فإذا كان لهم قبلوه وأوهموا ثبوته، وهو بالاستبعاد أولى! فقد ذكر الشيخ التويجري في كتابه (ص181) من رواية عائشة أنها تنقبت أتنظر إلى صفيّة لما قدم بها النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فسأل صلى الله عليه وسلم عائشة: " كيف رأيت؟". فقالت:

 

" يهودية وسط يهوديات"!

 

فهذا القول في صفية ومن معها من نساء الأنصار غير الأنصار مستبعد عندهم! لماذا؟ لان في الحديث ذكر انتقاب عائشة! مع أن في الأحاديث الصحيحة ما يغني عن هذا الحديث المنكر! ألا يدل هذا أن القوم لا ينطلقون من علم، وإنما عن هوى، وعن القاعدة الجاهلية: الغاية تبرر الوسيلة؟!

 

ومثله احتجاج التويجري (182) -وتبعه ظلّه محمد بن إسماعيل (3/ 329) وغيره- بحديث ابن عمرو:

 

" قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، فلما رجعنا إذ هو بامرأة لا نظنه عرفها، فقال: يا فاطمة…" الحديث، وفيه: "ولو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك".

 

وهذا كالذي قبله أورده مستدلاً به على تستر النساء في زمنه صلى الله عليه وسلم، وليس هذا موضع خلاف لو فرض أنه نص في ستر الوجه، لا،ه مشروع، ولكن لا يدل على الوجوب، هذا لو صح، وليس كذلك، كيف وقد ضعفه مخرجه النسائي بربيعة بن سيف فقال:" ضعيف"؟! وكتم التويجري هذا وظلّه، واغترا بمن صححه من المتساهلين أو الواهمين، كما بينته في " ضعيف أبي داود" (560).

 

 

 

 

 

 

 

 

الشبهة الثانية:

 

ذكرها العنبري الذي سبقت الإشارة إليه في "كتيبه"، فأعلّنه أيضاً (ص32-33) باختلاف الرواة في ضبط متن الحديث!

 

كذا قال! وهو يعني سبب ورود الحديث، وجوابه يعلم مما ذكرته في الجواب الأول عن الشبهة الأولى، فإنه لا علاقة له بمتن الحديث الذي هو قوله صلى الله عليه وسلم، وقد اتفقت الطرق الثلاث عليه، فلا داعي للإعادة.

 

نعم لقد شغب العنبري على المتن من ناحية واحدة فقال:

 

" نرى الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق الأولى يشير إلى الوجه والكفين، وفي الطريق الثانية لم يبد إلا أصابعه"!

 

فأقول: نعم، ولكن ما بالك كتمت اتفاق الطريق الثالث الصحيح إلى قتادة باعترافك مع الطريق الأولى!؟ أليس هذا مما يرجِّح لفظ:" الكفين" على " الأصابع"؟!

 

ثم ماذا يفيدك هذا الشغب في هذا الاختلاف المرجوح مع اتفاق الطرق الثلاث على ذكر الوجه، وهو الجانب الأهم من الاختلاف الذي خالفتم فيه السلف والأئمة؟!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشبهة الثالثة:

 

زعموا أن الحديث لو كان صحيحاً لما خالفته أسماء بنت أبي بكر التي وجَّه الحديث إليها، فقد كانت تغطي وجهها من الرجال وهي محرمة!

 

فنقول:

 

أولاً: لم تتفق الطرق على ذكر أسماء في الحديث كما اتفقت على متنه، فإن ثبت ذلك من أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحديث إليها، فالجواب:

 

ثانياً: قد قررنا مراراً أن تغطية المرأة وجهها هو الأفضل، خلافاً لما افتراه الأفّاكون علينا، فأسماء رضي الله عنها قد أخذت بالأفضل، وتركت ما هو جائز لها، فلا إشكال، وإنما كان من الممكن أن يصحَّ زعمهم لو كان يدل الحديث على وجوب كشف المرأة عن وجهها، وهذا مما لا يخطر في بال أحد، إلا أن يكون أعجميّاً لا يفقه من العربية شيئاً! كما فعل بعضهم حينما نسبني إلى مخالفة فتوايَ تقوايَ- على حد تعبيره- كما كنت شرحت ذلك في المقدمة الثانية لكتابي " الحجاب؟"، فراجعها إن شئت، فالظاهر أن الزعم المذكور قائم على مثل هذه العُجمة، وإلا لما قال قائلهم:"فما لأسماء لم تعمل بحديث السفور؟!".

 

ومن العجيب أن هذا القائل ينتسب إلى بني تميم! فما مثل هذا إلا كما لو قال قائل: ما بال بلال رضي الله عنه لم يعمل بالاستثناء في قوله تعالى:{ إلا أن تتقوا منهم تُقاة} (آل عمران: 28)، وقوله: { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (النحل: 106)، كما فعل عمار رضي الله عنه، كما يروي عنه أنه قال كلمة الكفر إبقاءً لمهجته؟! لا يقول هذا العربي ! بل ولا أعجمي مستعرب! لأنه إنما يفيد الجواز، فأخذ به أترى الفقه الأعجمي مجسداً مجسماً!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشبهة الرابعة:

 

تفرَّد بإيرادها الأخ محمد بن إسماعيل الإسكندراني، فقال في " عودة الحجاب" (3/342):

 

" لا يتصور أن تآمر الآية والأحاديث الصحيحة المؤمنين بغضِّ الأبصار، في حين نجد في هذا الحديث تصريحاً بإباحة النظر إلى الوجه والكفين، مما يوجب تأويل الحديث- على فرض ثبوته…" إلى آخر كلامه.

 

فأقول: أما ثبوته، فقد سبق بيانه بما لا يدع مجالاً للشك فيه عند كل منصف يعرف طرق العلماء في إثبات الأحاديث وقواعدهم التي عليها يبنون أحكامهم.

 

وأما الجهلة بهذا العلم، والذين لا يسألون أهل الذكر، ويتشبثون بأقوال من هبَّ ودبَّ ممن ليس في العير ولا النفير، فلا شأن لنا معهم.

 

وأما الجواب، فهو كالتالي:لقد قام في نفسك أن الآية مطلقة، وأن الحديث لا يصح لتقييدها، وكل من الأمرين أنت واهم فيه لغلبة التقليد عليك، وفقدان التحقيق، وأما الحديث، فقد سبق الكلام فيه، وأنه صحيح.

 

وأما الآية، فقد أفصحت عن خطئك فيها حين قلت (ص378):

 

" إن الأمر بغضِّ البصر مطلق، فيشمل كل ما ينبغي أن يغضَّ البصر عنه…".

 

فقولك: " مطلق" خطأ جرَّك إلى رد هذا الحديث الصحيح، فأنه خلاف ما عليه المفسرون: كابن جرير، والقرطبي، وابن كثير، فقالوا- واللفظ لابن كثير-:

 

" هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهن، فلا ينظرون إلا إلى ما أباح النظر إليه…".

 

ففي الآية إذن ما يحرم النظر إليه وما يباح على الرجال والنساء، فادِّعاؤك الإطلاق مردود عليك، ولا سيما أنك بنيت عليه رد هذا الحديث الصحيح، أو تعطيل دلالته بمعول التأويل الذي هدمتم به أدلة قاطعة، وبخاصة ما كان منها حديثاً نبوياً، كما فعلت أنت ومقلِّدك بحديث الخثعمية وغيره- كما تقدم هناك (ص 46-47) - وقلده من يجري خلفه دون أي بحث أو تحقيق-

كابن خلف وغيره- ثم نقلته أنت عنه في كتابك (3/327) مسلِّماً مستكثراً به! جاهلاً أو متجاهلاً- لا أدري والله – أن الخمار لغة وشرعاً: غطاء الرأس دون الوجه، كما عليه المسلمون سلفاً وخلفاً- وأنت منهم- فإني ظننت بك وبأمثالك من المخالفين، لا يصل الظن بكم أن تأمروا نساءكم أن يسترن وجوههن إذا قمن إلى الصلاة في البيت، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام:" لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"! بناء على زعمكم أن الخمار غطاء الوجه أيضاً !

 

والمقصود أن الغضّ ليس على إطلاقه كما زعمت، ولذلك قال ابن كثير في تمام كلامه السابق:

 

" فإن اتفق أن وقع البصر على محرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعاً، كما رواه مسلم عن جرير قال: سالت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري".

 

قلت: فالآية إذن كالحديث، إنما تأمر بغض النظر عما حرم فقط، فالإنصاف أن يقال: إن كان وجه المرأة مما يحرم عليها كشفه أمام الأجانب، حرم عليهم النظر، وإن جاز جاز. فهل أنصف القوم؟ الجواب مع الأسف: لا، والدليل: أنهم لا يجيزون للمرأة أن تنظر إلى وجه الرجل وما دونِه، مما ليس بعورة منه،واحتجبوا بهذه الآية، أي: بإطلاقها، وقد عرفت خطأهم بخطأ مقلّدهم، كما احتجوا عنه على افتراض صحته (ص63- 72)،ثم تكلّفوا في رد أدلة المجيزين للنظر بدون ريبة، كما فعلوا بحديث نظر عائشة رضي الله عنهما، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:" أتحبين أن تنظري إليهم؟". وقولها: فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم. وقولها: وما بي حب النظر عليهم، ولكن أحببت أن تبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه. ومع هذه النصوص الصريحة في نظرها إليهم، فقد عطَّلوا دلالاتها- كما هي عادتهم- بقولهم تارة:

 

" ليس في الحديث أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم،وإنما نظرت إلى لعبهم"!

 

فأقول: يكفي القارئ الكريم أن يتصوَّر هذا الجواب ليظهر له بطلانه، إذ لا يمكن الفصل بين النظر إلى الصفة وهو اللعب، وبين الموصوف وهو اللعب، فكانت عائشة تنظر في زعمهم إلى اللعب دون الملاعب! هكذا فلتعطل النصوص! ولو أنهم قالوا: لم تنظر إلى عورة، أو لم تنظر إليهم بنظرة مريبة، أو بخشية الفتنة، لأصابوا، فإن هذا هو المحرَّم بين الجنسين، أن ينظر أحدهما إلى عورة الآخر، أو إلى ما ليس بعورة ولكن بشهوة، أو يخشى الفتنة كما تقدم عن ابن عبد البر وغيره، وقد تقدمت أقوالهم في بعض البحوث المتقدمة، وسأجمعها لك قريباً إن شاء الله تعالى.

 

ثم رأيت للحافظ ابن القطان كلاماً قويّاً جدّاً-لم أره لغيره من أهل العلم- يوافق ما ذكرته من الإنصاف من جهة ويلتقي في النهاية مع أقوالهم المشار إليها من جهة أخرى، فرأيت أن لا أفوِّت على القراء فائدتها، فقال رحمه الله في كتابه (ق53/2):

 

" وقد قدمنا في مواضع أن إجازة الإظهار دليل على إجازة النظر، فإذا نحن قلنا: يجوز للمرأة أن تبدي وجهها وكفيها لكل أحد على غير وجه التبرُّج من غير ضرورة، لكون ذلك مما ظهر من زينتها، ومما يشق تعاهده بالستر في حال المهنة، فقد جاز للناس النظر إلى ذلك منها، لأنه لو كان النظر ممنوعاً مع أنه يجوز لها الإبداء، كان ذلك معاونة على الإثم،و تعريضاً للمعصية،وإيقاعاً في الفتنة، بمثابة تناول الميتة للآكل غير مضطر! فمن قال من الفقهاء بجواز الإبداء، فهو غير محتاج إلى إقامة دليل على جواز النظر، وكذلك ينبغي أن يكون من لم يجز للمرأة الإبداء والإظهار، غير محتاج إلى إقامة الدليل على تحريم النظر، وقد قدمنا أنه جائز للمرأة إبداء وجهها وكفيها، فإذن النظر إلى ذلك جائز لكن بشرط أن لا يخاف الفتنة، وأن لا يقصد اللذة،، وأما قصد اللذة، فلا نزاع في التحريم".

 

وتارة يقولون: كان ذلك قبل نزول آية الحجاب، وأنها كانت صغيرة. نقل هذا التويجري معجباً به قائلاً (ص154):

 

" ولا مزيد عليه"

 

وهذا من مكابرته وجحده للحقائق العلمية، فإنه يعلم أن الحافظ ابن حجر قد أبطل هذه الأقوال، فأثبت أن ذلك كان بعد بلوغ عائشة رضي الله عنها بسنين، فانظر لزاماً " " فتح الباري" (1/550 و 2/443-445).

 

ومن ذلك تأويلهم لحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها- كما تقدم بيان ذلك (ص46-47) –فإنه يدل على جواز نظرها إلى الضيفان الأجانب، ونظرهم إليها، أي: إلى وجهها. ولذلك جعلها القرطبي في " تفسيره " مخصصاً لعموم قوله تعالى:{ وقل للمؤمنات يغْضُضْنَ من أبصارهن} (النور: 31)، وبه وبحديث عائشة استدل كبار علماء الحنابلة من المقادسة وغيرهم- كما تقدم (ص66) - على إباحة نظر المرأة إلى غير عورة الرجل، وقد يكون هذا من المتفق عليه بشرط انتفاء الشهوة، فقد رأيت الحافظ ابن القطان يقول في كتابه (ق64 /1):

 

" لا خلاف أعلمه في جواز نظر المرأة إلى وجه الرجل ما كان، وإذا لم تقصد اللذة، ولم تخف الفتنة، كنظر الرجل إلى وجه الغلمان والمردان إذا لم يقصد ولا خوف… وكذلك أيضاً لا خلاف في جواز إبداء الرجال شعورهم، وأذرعهم، وسوقهم بحضرة الرجال وبحضرة النساء".

 

إذا عرفت هذا، فأنا أقول دون أي تردد: إن هؤلاء المتشددين على النساء مع مخالفتهم للنصوص الشرعية وأقوال الأئمة، فإنهم لا يفكرون فيما يخرج من أفواههم، أو على الأقل لا ينتبهون إلى أبعاد أقوالهم، وإلا فكيف يتصورون أن تغضّ المرأة بصرها عن الخطيب يوم الجمعة مثلاً وهو يخطب، أو عن المفتي وهي تستفتيه؟ ! بل كيف يمكن لهذا المفتي وأمثاله من الباعة أن لا ينظروا إلى وجهها ويديها وهم يتعاملون معها؟1 فالحق أقول: إن هؤلاء المتشددين يقولون ما لا يعقلون، ويعلمون بخلاف ما يقولون فأخشى أن يعُمَّهُم قول رب العالمين:{ يا أيها الذي آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} (الصف: 2).

 

وهذا الحديث الصحيح الذي نحن في صدد دفع الشبهات عنه يؤكد المعنى المذكور في الحديثين المذكورين، ويزيد عليهما أنه صرح بجواز نظر الرجل إلى وجه المرأة وكفيها، كما ذكر الأخ الإسكندراني نفسه، ولكنه أساء- مع الأسف- مرتين:

 

الأولى: أنه فهم الأمر بغض البصر أنه مطلق، وليس كذلك كما تقدم عن أئمة التفسير.

 

والأخرى: أنه بدل أن يفسر آية الغض بهذا الحديث- كما هي القاعدة في تفسير القرآن بالسنّة- فإنه خالف القاعدة وضرب الحديث بها!

 

وضربه إياه كان على وجهين:

 

أولاً: افترض صحة الحديث، وهو صحيح في واقع الأمر عند أهل العلم الواقفين على طرقه وشواهده، كما تقدم تحقيقه في هذا البحث الثامن بما لا تجد له نظيراً في كتاب آخر. والفضل كله لله أولاً وآخراً.

 

ثانياً: تأويله إياه، وذلك أن التأويل لأي نص شرعي لا يُصار إليه إلا عند عدم إمكان الجمع، وليس الأمر كذلك في هذا الحديث، فقد وفق العلماء –على اختلاف اختصاصاتهم ومذاهبهم- بحمل المطلق على المقيد، أو العام على الخاص-كما تقدم عن القرطبي- أو بقاعدة استثناء الأقل من الأكثر كما تقدم نقله عنه (ص27-28).

 

وإليك الآن ما وعدتك به من جمع أقوال العلماء المتقدمة، الذين صرحوا بما دلَّ عليه هذا الحديث الصحيح من جواز كشف المرأة عن وجهها وكفيها، ونظر الرجال إلى ذلك منها دون شهوة أو ريبة، ليتبين للقراء الكرام أن بعض المشايخ المخالفين يتشددون على الناس، ويدلِّسون على قرائهم، ويوهمون أن الإجماع على خلاف أقوال العلماء المشار إليهم، ملاحظين في سردها تاريخ وفياتهم، ليتبين لهم استمرار القول بذلك إلى يومنا هذا كاستمرار العمل به، مذكرين مرة أخرى بأن الغرض من ذلك هو بيان ما أمر الله ببيانه من العلم، ونهى عن كتمانه، وبخاصة بعد أن قام أولئك المشايخ بكتمانه عن الناس، وقلب الحقائق الشرعية، حتى حمل ذلك آخرين من المتشددين على معاكستهم، فألف أحدهم ما أسماه ب"تذكير الأصحاب بتحريم النقاب"! فهذا في واد وأولئك في واد، والحق بينهما، كما كنت ذكرت نحوه في مقدمة الطبعة الثانية لـ "الحجاب"، فها هي الأسماء، وبجانبها تاريخ الوفاة، ومعها أقوالهم:

 

1- سعيد بن جبير (ت95):

 

" لا يحل لمسلمة أن يراها غريب، إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار، وقد شدت بها رأسها ونحرها" (ص51).

 

2و3و4- أبو حنفية (ت 150)،و صاحباه أبو يوسف (ت183)، ومحمد بن الحسن الشيباني (ت189)، ويأتي قولهم قريباً.

 

5-مالك بن أنس (ت179):

 

" لا بأس أن تأكل المرأة مع غير ذي محرم " (ص35).

 

6: أبو جعفر الطحاوي (ت 321):

 

" أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء، إلى وجوههن وأكفهن، وحرم ذلك من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومجمد" (ص34).

 

 7- ابن عبد البر (ت463):

 

" وجائز أن ينظر إلى يديها ووجهها كل من نظر إليها لغير ريبة ولا مكروه…" (ص31).

 

8- البغوي في شرح السنة (ت516):

 

" ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين، إلا عند خوف الفتنة" (ص35- 36).

 

9- الزمخشري (ت538) ك

 

" لا بأس بإبداء ما كان ظاهراً منها، كالخاتم والكحل والخضاب" (ص27).

 

10—القاضي عياض (ت 544):

 

 

" قال العلماء: لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها،وإنما ذلك سنة مستحبة لها، ويجب على الرجل غض البصر في جميع الأحوال" (ص27-و40).

 

11-ابن القطان (ت628):

 

" وقد قدمنا أنه جائز للمرأة إبداء وجهها وكفيها، فالنظر إلى ذلك جائز، لكن بشرط أن لا يخاف

 

الفتنة، وأن لا يقصد اللذة، وأما إذا قصد اللذة، فلا نزاع في التحريم" (ص115)

 

12- ابن مفلح الحنبلي (ت 763):

 

" قولنا وقول جماعة من الشافعية وغيرهم: إن النظر إلى الأجنبية من غير شهوة ولا خلوة، فلا ينبغي الإنكار عليهن إذا كشفن عن وجوههن في الطريق" (ص40).

 

13- ابن رسلان من شرح " سنن الترمذي" (ت805):

 

يجوز نظر الأجنبية عند أمن الفتنة" (ص27).

 

14- الشوكاني (ت1255):

 

" إن الوجه والكفين مما استثني"، واستدل بهذا الحديث (ص28).

 

15- جماعة من علماء المذاهب الأربعة المعاصرين قالوا في " الفقه على المذاهب الأربعة":

 

" يحلُّ النظر لهما عند أمن الفتنة" (30).

 

قلت: وبالجملة، فهذه الأقوال من هؤلاء العلماء الأجلاء متفقة على أمرين اثنين:

 

الأول: أن وجه المرأة وكفيها ليس بعورة، وهو مذهب أكثر العلماء ورواية عن الإمام أحمد، كما أثبتنا ذلك في " البحث الخامس" (ص27).

 

والآخر: أنه يجوز النظر إلى ذلك من المرأة بغير شهوة.

 

فأقول: وينبغي أن يكون هذا المذهب سائر العلماء الذين قالوا بالأمر الأول، ضرورة أنه لا يجتمع القول بالمنع مع القول بجواز الإبداء، كما حققه ابن القطان رحمه الله فيما نقلته عنه آنفاً (ص115)، وهذا مطابق تماماً لهذا الحديث الصحيح المصرّح بالأمرين معاً، فعدم تصور الأخ الإسكندراني لذلك من ضيق عطنه، وقلّة علمه، وإلا لزمه القول بأن هؤلاء العلماء الإجلاء قالوا بما " لا يتصور"، وما أظنه يبلغ به الأمر إلى اتهامهم بذلك!

 

 

وبهذا تنهار هذه الشبهة الرابعة أيضاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشبهة الخامسة: قال أحد الفضلاء:

 

" وعلى التسليم بصحة الحديث يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم"!

 

فأقول: لا يصح الحمل المذكور هنا لأمرين:

 

الأول: أنه ليس في تلك النصوص ما هو صريح الدلالة على وجوب ستر الوجه واليدين، حتى يصح القول بأنها ناقلة عن الأصل.

 

والآخر: أن " نصوص الحجاب" المشار إليها تنقسم إلى قسمين من حيث دلالتهما:

 

الأول: ما يتعلق بحجاب البيوت حيث المرأة مبتذلة في بيتها، فهذا لا علاقة له بما نحن فيه كما هو ظاهر، على أنه ليس فيه إلا آية الأحزاب:{ وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} (الأحزاب:53)، وقد قدمنا عن ابن تيمية أنها في البيوت.

 

والآخر: ما يتعلق بالمرأة إذا خرجت من بيتها، وهو الجلباب، فالنصوص الواردة فيه قسمان أيضاً:

 

الأول: ما كان خبراً عن تجلبب النساء في عهده صلى الله عليه وسلم، فما كان من هذا النوع منصوصاً فيه على ستر الوجه- كحديث عائشة في قصة الإفك، ونحوه مما كنت ذكرته في فصل " مشروعية ستر الوجه"- فلا علاقة له بالبحث، لأنه مجرد فعل لا يصلح أن يكون ناقلاً من الأصل إلى التحريم، وهذا ظاهر لا يخفى على عالم فقيه منصف، وإن غفل عنه بعض الدكاترة!

 

والآخر: ما كان تشريعاً يتضمن أمراً بخلاف ما كانوا عليه من قبل، وليس من هذا إلا آية " إدناء الجلابيب"، وآية "ضرب الخمر على الجيوب"، وليس فيهما دليل على تحريم كشف الوجه واليدين، لا لغة ولا شرعاً، كما سبق تحقيقه- بما لا مزيد عليه- فيما تقدم من البحوث.

 

وإن مما يؤكد هذا الكل منصف متجرد عن الهوى والعصبية المذهبية، أن هؤلاء المسلِّمين بصحة هذا الحديث يشتركون معنا بجواز النقاب الذي يكشف عن عينيها-وعما دونهما ولو أحياناً-فهل خالفوا بذلك تلك النصوص الناقلة بزعمهم، أم { هم قوم خصمون}؟!

 

وزيادة في بيان بطلان هذه الشبهة أقول:

 

إن قصدهم بقولهم المذكور: إن هذا الحديث عندنا والمسَلَّم بصحته عندهم- منسوخ بآية الحجاب: { يدنين عليهن من جلابيبهن} (الأحزاب: 95)، وقد صرح بذلك بعض مقلديهم، كتلك المسماة بـ (رغداء) في " حجابها" (ص43)، والشيخ البليهي، والصابوني وغيرهما، كما في "العودة" (3/343)، وهذا –والله-من أعجب العجاب من أولئك الفضلاء، لأن الآية ليس فيها دلالة صريحة على وجوب التغطية كما ذكرت آنفاً، ولئن دلَّت على ذلك، فإنما هو بدلالة العموم لا يمكن إلا ذلك، سواء من حيث لفظة (الجلباب) أو (الإدناء)، فالحديث يشترك في الدلالة هذه في شرطه الأول:" إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يرى منها…"، فإنه بمعنى لم يصلح أن يرى منها شيء، ثم زاد على الآية فقال:" إلا وجهها وكفيها"، فهذا صريح في أن العلوم غير مراد، فإن كانت الآية عامة، فالحديث مخصص لها، وإلا فهو مبين لها، كما قال تعالى:{ وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم} (النحل: 44)، وهذا ظاهر جداً! فلا أدري كيف استقام في أذهان المخالفين ادعاء نسخ الحديث بالآية؟! فإن هذا مخالف لما هو مقرر في علم أصول الفقه، فما مثلهم إلا كمثل من قد يقول: إن حديث:" لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" (متفق عليه) منسوخ بقوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (المائدة: 38) ! وأن قوله صلى الله عليه وسلم في البحر:" هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته" –وما في معناه –منسوخ بقوله تعالى:{ حرِّمت عليكم الميتة} (المائدة: 3) ! والأمثلة فيذلك كثيرة وكثيرة جداً، ولذلك صرح الشوكاني باستثناء الوجه والكفين مستدلاً بهذا الحديث، كما تقدم آنفاً.

 

ثم بدا لي وجه ثالث: وهو أنه إنما يصح الحمل المذكور على فرض أن الحجة في مسألتنا إنما هي البقاء على الأصل، ألا وهو الإباحة، فحينذاك يصح الحمل المذكور، وأما والواقع ليس كذلك- لأن البحث في هذا الحديث على التسليم بصحته-فالحمل المذكور باطل، إذ كيف يحمل على ما قبل الحجاب أو الجلباب وهو يلتقي نعه في تحريم عدم تستر المرأة بالجلباب؟!أي: في النقل عن الأصل، ويزيد على آية الجلباب أنه استثنى منه الوجه والكفين –كما تقدم بيانه –وهذا واضح جداً.

 

وبهذا يتبين أيضاً سقوط كلام الأخ الإسكندراني في كتابه (3/344)، الذي حاول به دعم الحمل المذكور بكلام نقله عني حول الذهب المحلق، متوهماً أنه حجة علي، لغفلته عن الفرق بين ما هو الأصل فينقل عنه النص العام، وبين النص الناقل عن الأصل مقروناً بالاستثناء الدال على بقاء ما فيه على الأصل، لقد غفلوا جميعاً عن هذه الحقيقة، وما مثلهم في ذلك إلا مثل من يحرِّم الذهب مطلقاً والحرير على النساء، مع استثنائه صلى الله عليه وسلم لهن من التحريم في الحديث الصحيح لطرقه:" هذان يفعل هذا أحد من أهل العلم؟! ذلك مما لا أظنه، ولكن قد فعل مثله هؤلاء الخالفون في حديثنا هذا، فنسخوا الخاص بالعام! والله المستعان.

 

وما تقدم آنفاً هو الجواب أيضاً عن سؤال طرحه المعروف بابن خلف في " نظراته" (ص87)، فقال بجهل بالغ:

 

" لماذا لا يقول بالقاعدة الفقهية: إذا تعارض حاظر ومبيح قدِّم الحاظر؟!"!

 

وأيده الأخ الإسكندراني (3/345-346) بكلام لا طائل تحته، بعضه يتعلق بالخبر الناقل عن الأصل –عرفت جوابه- والآخر بهذه القاعدة والجواب هو الجواب نفسه، أي: ليس هنا محلها، فهي كالقاعدة الأولى المتعلقة بتقديم الخبر الناقل عن الأصل، فالقاعدتان صحيحتان، ولكن وضعتا في غير مكانهما، ومن لم يصدق، فليطبقهما على مثال الحرير والذهب للنساء إن شاء !

 

وخلاصة الجواب عن هذه الشبهة الخامسة: أن القوم اعرضوا عن التعامل مع هذا الحديث –على تسليمهم بصحته، وهو عندنا صحيح- بالقواعد العلمية الأصولية الصحيحة التي منها: لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذَّر الجمع، ومنها حمل العام على الخاص، وقد قال العلماء:

 

" لا يحل لأحد أن يقول في آية أو حديث: إنهما منسوخان لا يجوز العمل بهما، إلا بنص جلي أو إجماع".

 

ذكره ابن حزم في " الإحكام في أصول الأحجام" وأن إجماع العلماء عليه (3/130) وفصّل ذلك في " فصل في كيف يعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخاً" (4/83-92) فليراجعه من شاء فإنه مهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحث العاشر: هل يجب على النساء أن يسترن وجوههن لفساد الزمان وسداً للذريعة؟

 

فأقول: هذا السؤال يطرحه اليوم كثير من المقلدة الذين لا ينظرون إلى المسائل الشرعية بمنظار الشرع وأدلته ولا يتحاكمون عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة وإنما إلى ما قام في نفوسهم من الآراء والأفكار، ولو أنهم استجابوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم لا استراحوا وراحوا! ولكنهم أرضوا عن ذلك وعن أقوال أئمتهم، بأن عليهم جميعاً- رجالاً ونساءً- أن يغضوا من أبصارهم على التفصيل المتقدم بيانه ولجؤوا إلى تقليد بعض المقلدين الذين جاؤوا من بعد الأئمة بعلة إبتدعوها وهي قولهم:" بشرط أمن الفتنة " – أي: الافتتان بها- وإلا وإلا وجب عليها سترهما، وغلا أحدهم – ممن لا فقه عنده ولا نظر- فنسب ذلك إلى اتفاق الأئمة رضي الله عنهم! فإن المتبادل من لفظة: "الأئمة " إنما هم الأئمة الأربعة المجتهدون ولا يعلم عن أحد منهم أنهم اشترطوا الشرط المذكور ولا يليق ذلك بعلمهم لما يأتي، بل إن ظاهر ما تقدم ذكره – ص119 –121- من قولهم بإباحة النظر إلى ذلك منهن ينافيه ولذلك لم يعرِّج على الشرط المذكور أحد كبار أتباع أبي حنيفة من المتأخرين، وهو محمد بن أحمد بن أبي سهل أبو بكر شمس الأئمة السرخسي المتوفى في حدود الخمسمئة الذي وصفه العلّامة اللكنوي في " الفوائد " (158) بـ:

 

" كان إماماً علّامة حجة متكلماً مناظراً أصولياً مجتهداً، عدّه ابن كمال باشا من المجتهدين في المسائل"

 

أقول: فالسرخسي هذا – مع إمامته – صرّح -تبعاً لأبي حنيفة وصاحبيه والطحاوي كما تقدم– بإباحة النظر إلى الأجنبيات مع أنه ذكر أن حرمة النظر لخوف الفتنة وأن الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر أعضائها فقال في كتابه " المبسوط " (10/152-دار المعرفة، بيروت):

 

"ولكنا نأخذ بقول علي (!) وابن عباس رضي الله عنهم فقد جاءت الأخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها وكفيها إذا لم يكن النظر عن شهوة فإن كان يعلم أنه إن نظر إشتهى لم يحلل له النظر إلى شيء منها".

 

قلت:" وقوله: " علي" لعله سبق قلم أو خطأ من الناسخ أو الطابع، فإنا لم نجد في الأخبار التي أشار إليها السرخسي شيئاً عن علي، وهي عن ستة من الصحابة وقد ذكرت أسماءهم فيما تقدم (ص103-104)، ومنهم عائشة وابن عمر، فأخشى أن يكون محرفاً من "عائشة"، و لفظ حديثها عن البيهقي (2/226):

 

"{ ما ظهر منها}: الوجه والكفان ".

 

وإسناده ضعيف لكن له طريق أخرى عن ابن أبي شيبة وغيره، ويشهد له أثر ابن عمر بلفظ:

 

" الزينة الظاهرة: الوجه والكفان ".

 

أخرجه ابن شيبة (4/ 284) بسند صحيح عنه

 

ثم روى مثله عن ابن عباس وسنده صحيح أيضاً.

 

وأما تعليق الأخ الإسكندراني على قول السرخسي: "علي وابن عباس" بقوله (3/420):

 

"يشير إلى ما روي عنهما رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى:{إلا ما ظهر منها }: بأنه الكحل والخاتم وقد بين الإيمان أكمل الدين البابرتي الحنفي في "شرح العناية على الهداية" أن دلالة قولهما على الوجه والكفين غير واضح قال:

 

"إذ الظاهر أن موضع الكحل هو العين لا الوجه كله وكذا موضع الخاتم هو الإصبع لا الكف كله والمدعى جواز النظر إلى وجه الأجنبية كله والى كفيها بالكلية ".اهـ. (10/24) ".

 

فأقول: هذا التعليق والاستظهار الذي فيه خطأ من وجوه:

 

أولاً: أنه قائم على أن الزينة المذكورة في الآية هي الزينة نفسها وليس موضعها وهذا خطأ مخالف لما عليه المحققون من المفسرين وغيرهم – كما تقدم (صفحة 27-32) -ولا أدل على ذلك من أنه لا قائل بأنه لا يجوز للمرأة أن تظهر حليها للأجنبي وهي ليست على بدنها كما لا قائل بالعكس أي أن تظهر مواضعها من بدنها والزينة ليست عليها !

 

ثانياً: مما يؤكد الخطأ أنه لا يمكن رؤية الخاتم في الإصبع إلا برؤية الكف فثبت أن المقصود في الأثر هو الموضع وليس الزينة نفسها

 

ثالثاُ:أن ذلك قائم على اللفظ الذي ذكره المعلق: " الكحل والخاتم"

 

وذلك خطأ منه لأمرين اثنين:

 

الأول: أنه ضعيف لا يصح حكى ذلك المعلق نفسه في مكان آخر (3/ 431) ! والصحيح الثابت عن ابن عباس وغيره إنما هو بلفظ:" الوجه والكفين" كما تقدم قريباً، فالدلالة واضحة جداً.

 

والآخر: أن المقرون مع ابن عباس في عبارة السرخسي إنما هو ابن عمر أو عائشة- كما رجحته آنفاً -ولفظهما وهو عين اللفظ الصحيح عن ابن عباس كما رأيت وعليه فلا يجوز حمل لفظهما- أو لفظ أحدهما- على لفظ ابن عباس الضعيف عنه كما هو ظاهر لا يخفى على أهل العلم.

 

وبهذا يسقط الاستظهار المذكور من أصله، ويظهر أن التعليق المذكور لا قيمة له من الناحية العلمية، لأنه قائم على التحويش دون التحقيق والتفتيش! وتمييز الصحيح من الضعيف من الروايات!

 

وهنا سؤال يطرح نفسه –كما يقولون اليوم -: لماذا آثر الأخ محمد بن إسماعيل اللفظ الضعيف على اللفظ الصحيح؟!

 

والجواب: من وجوه:

 

أولاً: لأنه المناسب لكلام البابرتي الحنفي!

 

ثانياً: لأنه لا يعرف الفرق بين اللفظين رواية، ويعرف الفرق بينهما دراية!

 

ثالثاً: أنه لا يعلم صحة أي لأنه كان تورط ببحث طويل للشيخ عبد القادر السندي – أصله الله – حول أثر ابن عباس، دندن فيه حول هذا اللفظ الضعيف وأفاض في بيان ضعفه، مع المبالغة في تضعيف راويه –مع التكرار الممل والإضطراب المخل في الحكم – بما لا مجال لبيان ذلك هنا، وكتم هذا اللفظ الصحيح، ولم يتعرض ذكر إسناده ولكنه أشار إليه (ص18) بقوله:

 

" وهنا أسانيد أخرى لا تقل درجتها في الضعف والنكارة"!

 

كذا قال هداه الله ! وهو في ذلك كاذب، وانطلى كذبه على أخينا الطيب ! فنقل كلامه في كتابه (3/263-265) وأقره عليه لجهله كغيره بهذا العلم، بل وعنْوَن له بقوله:" تحقيق الآثار المنسوبة إلى ابن عباس رضي الله عنها! " وأتبع ذلك ببحث عنون له بـ" الجواب عن قول ابن عباس على فرض نسبته إليه " (3/267):

 

ولذلك أراني مضطراً في أن أسوق إسناده الصحيح ليكون القراء على بينة منه أولاً وليعرفوا الصادق من الكاذب والعالم من الجاهل ثانياً، ولكي لا يغتروا بكل ناعق يهرف بما لا يعرف ثالثاً، والله المستعان.

 

قال ابن أبي شيبة رحمه الله في " المصنف في (4/283): حدثنا زياد ابن الربيع عن صالح الدهان عن جابر بن زيد عن ابن عباس:

 

"{ ولا يبدين زينتهن }: قال: الكف ورقعة الوجه".

 

قلت: وهذا إسناد صحيح، لا يضعفه إلا جاهل أو مُغرض، فإن رجاله ثقات، فأبدأ بشيخ ابن أبي شيبة زياد بن الربيع، فهو ثقة دون أي خلاف يذكر، وقد احتج به البخاري في "صحيحه".

 

وصالح الدهان ثقة أيضاً، كما قال ابن معين. وقال احمد في "العلل" (2/33):

 

" ليس به بأس ".

 

وذكره ابن حبان في "الثقات" (6/457).

 

وأما جابر بن زيد –وهو أبو الشعثاء الأزدي-فهو أشهر من أن يذكر، ومن ثقات التابعين المشهورين بالأخذ عن ابن عباس، وخرَّج له الشيخان، وشهد له ابن عباس بأنه من العلماء بكتاب الله – كما تقدم (ص50) - وهو الذي تلقى عن ابن عباس تفسير (الإدناء) بقوله:" تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به"- كما تقدم (ص50) - وهو الذي كان يأمر هند بنت المهلب أن تضع الخمار على الجبهة، أي: وليس على الوجه، كما يزعم التويجري ومقلّده.

 

وقد تابعه سعيد بن جبير عن ابن عباس. عند ابن أبي شيبة أيضاً، وفي سنده ضعيف.

 

وتابع ابن عباس عبد الله بن عمر بسند صحيح، وتقدم لفظه المطابق للفظ ابن عباس الصحيح آنفاً، فلا يغير يعد هذا بقول مؤلف" كشاف القناع" (1/243) – بعد أن عزاه لابن عباس وعائشة –:

 

" رواه البيهقي، وفيه ضعف".

 

وأقرّه الإسكندراني (3/431) 1 فإن إسناده عند البيهقي غير إسناده عند ابن أبي شيبة، على الإفراد يوهم أن البيهقي رواه عنهما بإسناد واحد، وهذا خلاف الواقع، فإنه رواه (2/225) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، ثم من طريق عكرمة عنه، فهذان طريقان، ثم رواه من طريق عطاء بن أبي رباح عن عائشة، فهذا الأخ الإسكندراني -وغيره ممن خاضوا فيما لا يحسنون- من جنف وظلم على هذا العلم الشريف؟؟!

 

لقد ابتعدنا بقرائنا قليلاً أو كثيراً عن موضوع البحث، فمعذرة إليهم، وإن كان في ذلك بعض الفوائد التي قد لا يجدونها في غير هذا المكان، فلنعد إلى ما كنا في صدده من مناقشة الشرط الذي وضعه أولئك المقلدة، مخالفين في ذلك من كان مجتهداً في المذهب، وهو العلامة السرخسي، فضلاً عن غيره من العلماء المتقدمين والمتأخرين إلى عصرنا هذا، الذين استمروا على القول بجواز النظر إلى وجه المرأة وكفيها إذا أمن الناظر الفتنة، وقد ذكرت أقوالهم في ذلك قريباً (ص119-121)، فليراجعها من شاء أن يتذكر، وهي كلها تلتقي على أنه يجب على الرجال أن لا ينظروا إلى وجوه النساء عند خشيتهم الفتنة، فما أجهل ذلك أن تستر وجهها حتى لا يفتن الرجال بها! وفيهم من كان في القرن السادس وما بعده- كالقاضي عياض والنووي وابن مفلح والشوكاني-وقالوا كما تقدم:

 

" لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها"، وأنه لا ينبغي الإنكار عليهن إذا كشفن عن وجوههن في الطريق!

 

وكأن ذلك المؤلف ومن على شاكلته-من المقلدة كالصابوني والغاووجي وأمثالهم- يتوهمون أن الفتنة كانت مأمونة في تلك القرون، وان الله تبارك وتعالى لم يضع الذرائع والسدود أمامها بما فرض على النساء من الحجاب، وبما أمر به الجنسين من غض البصر، وقال في ذلك:{ ذلكم اطهر لقلوبكم وقلوبهن} (الأحزاب: 53)، ويتناسون أن طبيعة البشر واحدة في كل زمان، كما جاء في القرآن:{ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين..} (آل عمران: 14) الآية. وأنهم إنما يتفاوتون بالتقوى واتباع أحكام الله تعالى، ومن ذلك قصة الفضل بن العباس رضي الله عنهما مع الخثعمية الحسناء، وتكرار نظره إليها وهو حاج ! وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بصرف وجهه عنها، ولا يأمرها بأن تسدل على وجهها، وهذا هو وقت الفتنة بها، وسد الذريعة دونها بزعمهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، فدَّله فعله صلى الله عليه وسلم على بطلان ما ذهبوا إليه من إيجاب الستر كما هو ظاهر، لاتفاق العلماء على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولذلك، فقد أساء أحدهم حين قال- تخلِّصاً من هذه الحجة الظاهرة-:

 

" لعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد ذلك"، أي: بتغطية وجهها!

 

فأقول تبعاً لابن عمر-أو غيره من السلف-: اجعل (لعل) عند ذاك الكوكب، لأن فيه تعطيلاً للسنة التي منها إقراره صلى الله عليه وسلم، ذلك لأنه ما من شيء سكت عنه صلى الله عليه وسلم وأقره إلا ومن الممكن لكل مجادل أن يُبطله بمثل ذلك القول! كمثل حديث ذلك الرجل الذي أحرم بعمرة في جبته بعدما تضمخ بطيب، فأمره صلى الله عليه وسلم بنزع الجبة وغسل الطيب، وهو في " الصحيحين"، فاستدل به العلماء- ومنهم الحنابلة- على أنه لا فدية عليه، قال ابن قدامة في " المغني" (3/262):

 

" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بفدية".

 

فهل يقول المشار إليه هنا كما قال هناك:

 

" لعل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بعد ذلك"؟!

 

أم هو الكيل بمكيالين، والوزن بميزان؟! والله المستعان.

 

واعلم أيها القارئ! لأن الأحاديث التي أخذ منها العلماء-على اختلاف مذاهبهم-كثيراً من الأحكام من إقراره صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، ولو أن باحثاً توجه لجمعها في كتاب، تكلم عليها رواية ودراية، لكان من ذلك مجلد أو أكثر.

 

ومن هنا تظهر خطورة هذا الترجي الذي لا يحمل عليه إلا التقليد والدفاع عن المذاهب والرأي، ومن ذلك قصة الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه الذي حفظ لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: " أين الله؟ وجوابها:" في السماء"، وشهادته صلى الله عليه وسلم فيها:" إنها مؤمنة "، فقد كان رضي الله عنه يصلي وراءه صلى الله عليه وسلم يوماً-وهو حديث عهد الإسلام – فنادى:" واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟!". إلى آخر قصة في " صحيح مسلم" وغيره، وهو مخرج في "الإرواء" (2/111/390)، واستدل به العلماء ومنهم الشافعية:" إن كلام الجاهل في الصلاة لا يبطلها"، على تفصيل في ذلك عندهم، قال النووي في "شرح مسلم":

 

" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة الصلاة".

 

ونحوه قال ابن تيمية في "الفتاوى" (20/366و22/624).

 

وإنما قلت آنفاً:" وهذا هو وقت الفتنة…"، لقول العباس رضي الله عنه –كما في حديث علي في الكتاب (ص28-الطبعة السابعة) -:

 

"يا رسول الله ! لِمَ لويت عنق ابن عمك؟". فقال صلى الله عليه وسلم:

 

"رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما".

 

فهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك مخالفة الفتنة، كما قال الشوكاني في " نيل الأوطار" (6/97)، فمن فعل في مثل هذه الحالة خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خالف هديه صلى الله عليه وسلم، وتعرض لوعيد قوله تعالى:{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور:63)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" …ومن رغب عن سنتي فليس مني" متفق عليه. فكيف به إذا جعل مخالفته قاعدة مستمرة إلى ما شاء الله؟!

 

ثم قال الشوكاني رحمه الله:

 

" وقد استنبط منه ابن القطان جواز النظر عند أمن الفتنة، حيث لم يأمرها بتغطية وجهها، فلو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل، ولو لم يكن ما فهمه جائزاً ما أقره عليه ".

 

وقد أجاب بعض من لا فقه عنده عن عدم أمره صلى الله عليه وسلم إياها بالتغطية بقوله:

 

" لو أمرها لأصبح واجباً أن تغطي وجهها، ولم ندَّع هذا"!

 

انظر " حجاب العدوي" (ص99).

 

فأقول: من رأيك الذي ألّفت " حجابك " من أجل تأييده والرد على مخالفك، أن الواجب على المرأة ستره، فهل تعني بقولك المذكور انه لا يجب الستر على المحرمة؟! لئن قلت ذلك- بل قد صرحت بذلك (ص79) - فقد جئت ببدع من القول خالفت به سبيل المؤمنين، فإننا لا نعلم أحداً من أهل العلم قال بوجوب الستر كأصل، مع عدم الوجوب على المحرمة ولو عند الفتنة! وإلا لما احتاج متبوعوك إلى بطلان قولهم بالوجوب، وقد سبق بيان بطلان تلك الوجوه في الصفحة (41-43و135-136).

 

وعم هذه المخالفة للعلماء جميعاً،فقد تناقض مع نفسه مرة أخرى، فإنه مع ذلك جزم (81) بأنه يلزم الأمة أن تستر وجهها إن خشيت الفتنة سداً للذريعة، والأصل عنده أنه ليس ذلك بلازم عليها، وهنا لم يقل بلزوم ذلك على الحرة مع تحقق الخشية، والأصل أن ذلك واجب عليها عنده! أليس هذا من التلون في دين الله الذي نهى عنه أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه؟! تخلصاً من دلالة الحديث الظاهرة التي نص كبار العلماء، وجروا على ذلك حنى اليوم كما تقدم تحقيقه! والله المستعان.

 

وخلاصة القول:إن الفتنة بالنساء كانت في زمن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك شرع الله عز وجل من الأحكام للجنسين-سداً للذريعة-ما سبقت الإشارة إليه، فلو شاء الله تعالى أن يوجب على النساء أن يسترن وجوههن أمام الأجانب، لفعل سداً للذريعة أيضاً، { وما كان ربك نسيبا} (مريم: 64)، ولأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر المرأة الخثعمية أن تستر وجهها فإن هذا هو وقت البيان كما تقدم، ولكنه على خلاف ذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس في ذلك المشهد العظيم، أن سد الذريعة هنا لا يكون بتحريم ما أحل الله للنساء أن يُسفرن عن وجوههن إن شئن، وإنما بتطبيق قاعدة:{… يغضّوا من أبصارهم}، وذلك بصرفه نظر الفضل عن المرأة.

 

وفي نقدي أنه لا فرق بين هؤلاء المقلدة الموجبين على النساء ستر وجوههن –سدّاً للذريعة كما زعموا-وبين ما لو قال قائل: يجب على الرجال أن يستروا وجوههم- كما هو شأن الملثمين في بعض البلاد- كي لا تفتتن النساء بالنظر إليهم سداً للذريعة أيضاً ! فهذا كهذا، ومن فرَّق، فقد تناقض وتعصّب للرجال على النساء، إذ إنهم مشتركون جميعاً في وجوب غضِّ النظر، فمن زاد على الآخر حكماً جديداً بغير برهان من الله ورسوله، فقد تعدَّى وظلم، { والله لا يحب الظالمين} (آل عمران: 57).

 

وهنا أستحضر بيتاً من الشعر كأن المرأة فقيهة تتمثل به فتقول:

 

غيري جنى وأنا المعذّب فيكم * فكأنني سبَّابة المتندم!

 

ولعل من نافعة القول أن الذكر: أن جلَّ هذا البحث إنما هو مع أولئك المقلدة الذين خالفوا أئمتهم في هذه المسألة –والكتاب والسنة معهم- والذين يرى المقلدون وجوب تقليدهم، لأن أقوالهم بالنسبة إلى المقلدين كأدلة الكتاب والسنة بالنسبة للمجتهدين، فكما لا يجوز لهؤلاء إلا اتباع الكتاب والسنة، فكذلك أولئك لا يجوز لهم إلا تقليدهم، هكذا يقولون، وهذا مبلغ علمهم، وأما هنا فقد أجمعوا على مخالفة الكتاب والسنة من جهة، وأقوال أئمتهم من جهة أخرى! وزادوا على ذلك –ضِغثاً على إبّالة – فقلدوا من لا يجوز عندهم تقليدهم، لأنهم مقلدون مثلهم، ومن متأخريهم كما تقدم ن والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، كما قال ابن القيم في " إعلام الموقعين" (1/51و2/293)، وحكى أبو الحسن السندي في أول " حاشيته المرغيناني ابن ماجه" عن السيوطي: إن المقلد لا يسمى عالماً. ولذلك سماه المرغيناني الحنفي في " شرح الهداية" (6/359) بـ "الجاهل"، وحكى الخلاف في جواز توليته القضاء، ونقل ابن الهمام في "فتح التقدير" عن الإمام محمد: إن المقلد لا يجوز أن يكون قاضياً! وما أحسن المثال الذي ضربه الإمام الشافعي للمقلِّد حين قال:

 

"مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه افعى تلدغه وهو لا يدري". رواه البيهقي في "المدخل" (210-211) بسند صحيح عنه. ومن الحجة لهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

 

" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم (وفي رواية: برأيهم)، فضلوا وأضلوا". متفق عليه، واللفظ والرواية الأخرى للبخاري (رقم 68-مختصر البخاري)، وراجع له " فتح الباري" (13/282-290) إن شئت، فقد أفاض في شرحه وبيان فوائده، وأن المراد بقوله:" رؤوساً جهالاً": إنما هم المقلدة، والواقع في أكثر البلاد الإسلامية مصداق هذا الحديث الصحيح، ومنه ما نحن فيه. والله المستعان.

 

ثم إنني أقول:

 

لو أن أولئك المقلدة كانوا على شيء من العلم، لما أوجبوا على النساء أن يسترن وجوههن خشية أن يفتتن الرجال بهن، ومع قولهم: إن الأصل جواز الإسفار. ولقالوا: إذا خشيت المرأة أن يصيبها مكروه من بعض الرجال الأشرار بسبب إسفارها، فعليها أن لا تسفر على سداً للذريعة. ولو أنهم قالوا هذا لكان فقهاً مقبولاً، وأما أن يفرض ذلك على النساء عامة في كل زمان ومكان، فهو تشريع ما أنزل الله به من سلطان، فلا جرم أنه لم يقل به أحد من علماء الإسلام، بل قالوا نقيض ذلك، كما قدمنا عن القاضي عياض والنووي وابن مفلح وغيرهم من الأعلام.

 

 

 

 

 

 

 

 

خلاصة البحوث المتقدمة:

 

وتلخيصاً لما تقدم أقول:

 

لقد تجلى للقراء الكرام من هذه البحوث النيِّرة الحقائق التالية:

 

1- إن القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها وكفيها ليس عندهم نص في ذلك من كتاب أو سنة أم إجماع، بل وليس معهم أثر واحد صحيح صريح عن السلف يجب اتباعه، واللهم إلا بعض النصوص العامة أو المطلقة التي تولَّت السنة بيانها، ولم يجر العمل بإطلاقها وعمومها عند الأمة، فمنهم من استثنى الوجه والكفين، ومنهم من استثنى نصف الوجه، ومنهم من استثنى من الوجه العينين،و منهم من استثنى عيناً واحدة! والأولون هم أسعدهم بالكتاب والسنة.

 

2- تفسيرهم ل (الخمار) و (الإدناء) و (الجلباب) و (الاعتجار) بخلاف الأحاديث النبوية، والآثار السلفية، والنصوص اللغوية، بل وخلافاً لتفسيرهم لآية القواعد من النساء!

 

3- استدلالهم على ذلك بالأحاديث الضعيفة، والآثار والواهية والموضوعة، وهو يعلمون أو لا يعلمون!

 

4- ادعاء بعضهم الإجماع على رأيهم وهو يعلمون الخلاف فيه، وقد ينقلونه هم أنفسهم! ولكنهم يكابرون! ومن المخالفين لهم الأئمة الثلاثة، ومعهم أحمد في رواية!

 

5- أنكروا نصوصاً صحيحة صريحة على خلاف رأيهم، تارة بتأويلها وتعطيل دلالاتها، وتارة بتجاهلها أو بتضعيفها، وهو جميعاً ليسوا من أهل التصحيح والتضعيف، وإنما اضطروا أن يدخلوا أنفسهم فيما ليس لهم به علم، فصححوا وضعفوا ما شاؤوا دفاعاً عن رأيهم!

 

6- وربما غيّر بعضهم في إسناد الرواية راوياً بآخر تقوية له، وحذف من متن الحديث أو كلام العالم ما هو حجة عليه! وساق الأثر محتجاً أو مستشهداً به وهو عليه.

 

7- تهافتهم على تضعيف قوله صلى الله عليه وسلم:" إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها وكفيها"، ومخالفتهم للمحدثين الذين قووه، وللقواعد العلمية التي تستوجب صحته، بتعليلات وآراء شخصية لا يعرفها أهل العلم.

 

8- اتفاقهم على تضعيف الآثار المروية عن الصحابة التي تشهد للحديث، مع أن بعضها صحيح السند، كأثر ابن عباس وابن عمر، وله عن ابن عباس وحده سبعة طرق!

 

9- كتمان بعضهم بقية الحديث المقوية له، وادعاء بعضهم الضعف الشديد في بعض رواتها، تمهيداً للتخليص من الاستشهاد بها، وإيهامها القراء انه لا موثق له، بالإحالة إلى بعض المصادر، والواقع فيها يكذبه!

 

10- ادعاء بعضهم نسخ الحديث بآية (الإدناء)، خلافاً للقواعد العلمية التي توجب الجمع بحمل العام على الخاص ونحو ذلك.

 

11- تعلّقهم بما لا يصح رواية ودراية لردِّ ما صح رواية ودراية! وتمسكهم بمطلق القرآن وفد قيَّدته السنَّة.

 

12- تعطيل بعض المقلّدة لأدلة الكتاب والسنة، ولأقوال أئمتهم أيضاً القائلة بجواز كشف المرأة لوجهها، بتقليدهم بعض المقلِّدة القائلين بوجوب الستر سدّاً للذريعة -بزعمهم- خلافاً للسرخسي وغيره من العلماء إلى عصرنا هذا.

 

13- تعطيل أحد شيوخهم للقاعدة الفقهية: "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"، ولقاعدة الاحتجاج بإقراره صلى الله عليه وسلم وسكوته عن الشيء، للتخلص من دلالة حديث الخثعمية على جواز الكشف.

 

هذه الجملة من الحقائق والأوهام التي وقع المخالفون المتشددون فيها – لتعصبهم لرأيهم، وإهمالهم القواعد العلمية الحديثية منها والفقهية، وإعراضهم عن الاستفادة من أقوال واجتهادات العلماء الآخرين سلفهم وخلفهم- يتلمسها القرّاء الكرام من تلك البحوث العشرة، أحببت أن أجعلها ماثلة بين أعينهم لتكون عبرة لمن يعتبر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة:

 

هذا، ولا بد لي في هذه الخاتمة من لفت النظر إلى أن التشدد في الدين شر لا خير فيه. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:" الخير لا يأتي إلا بالخير". متفق عليه، فكذلك الشدة شر لا تأتي إلا بالشر، ولذلك تكاثرت الأحاديث، وتنوعت عباراتها في التحذير منها، فقال صلى الله عليه وسلم:

 

أولاً:" إن الدين يسير، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا…" رواه البخاري (رقم 39).

 

ثانياً:" إياكم والغلو في الدين ! فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". رواه أصحاب الصحاح: ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والضياء وغيرهم، وهو مخرج في " الصحيحة" (11283).

 

ثالثاً: " لا تشددوا على أنفسكم، فإنما هلك من قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والدرايات". أخرجه البخاري في "التاريخ" وغيره، وقد خرجته في "الصحيحة" (3124).

 

وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدَّ أن القراء الكرام لاحظوا هذا التشدد مجسماً فيما حكينا من أقوالهم وآرائهم منها قولهم:" حتى ظفرها"، وفي الصلاة أيضاً! وما تكلفوا به من رد الأدلة القاطعة بجريان العمل بكشف الوجه في القرون المشهود لها بالخيرية، وشهادة فضلاء الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين بجواز ذلك، وما قول الإمام مالك دار الهجرة ببعيد عن ذاكرة القارئ، وهو: أنه يجوز- أو لا بأس –أن تأكل المرأة مع غير ذي محرم (انظر ص35)، وغير ذلك من أقوالهم الصريحة بأن الوجه ليس بعورة.

 

فأقول: ومع يضلل الشيخ التويجري من قال بهذا القول- كما تقدم عنه (ص8) -بل ويجعل ذلك من الإلحاد في آيات الله… (ص49) ! ثم هو لا يخجل أن يدعي الإجماع على أن وجه المرأة عورة! وهو نفسه يذكر أن أكثر العلماء على خلاف ذلك- كما تقدم (ص32) - وأتباعه في هذا التشدد فيهم كثرة مع الأسف.

 

هذا من الناحية العلمية التي يشاركنا في معرفتنا لها كل من وقف على أقوالهم.

 

وأما من الناحية العلمية، فالأمر غريب جداً، وقد توفر عندي ثلاثة أمثلة:

 

الأول: حدثني صهر لي أنه قصد زيارة شيخ فاضل من أولئك المتشددين، فلم يحفل به ولا استقبله، لأن زوجته كانت سافرة عن وجهها، مع أن حجابها شرعي من كل النواحي! هذا، والشيخ معروف بتواضعه ودماثة خلقه! فأين هذا من قول الإمام أحمد المتقدم (ص9):

 

"لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه"؟!

 

الثاني: لما اعتمرت أنا وزوجتي أم الفضل سنة (1410 هـ)، وهي تنصح النساء، بأن هذا لا يجوز، فإن كان ولا بد، فعليكن بالسدل، ونذكر الحديث الوارد في ذلك، فلا نجد منهم تجاوباً، وكنت أشعر بأن ذلك أثر من تشديد بعض المشايخ في مسألة الوجه! وكان عليهم- إذ أبوا إلا التشديد- أن يضيفوا إلى ذلك تحذير المحرمات من الانتقاب، فإنه فاشٍ جداً فيهن، كما شاهدت ذلك في كل حجاتي وعمري، ورأيت في محرمة؟ قال:نعم. فقلت: يا أخي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا…". فلم يدعني أكمل الحديث، وبادر بقوله: هذه مسألة خلافية. قلت: ليس بحثي في وجه المرأة، وإنما في انتقاب المحرمة. فلم يعبأ بي، وانطلق معها يسعى!

 

الثالثة: في السنة المذكورة – وبعد العمرة- قيِّض لي أن أزور المنطقة الشرقية من السعودية، وألقيت فيها، بعض المحاضرات، وأجبت عن أسئلة السائلين والسائلات أيضاً كتابة وهاتفياً، فبلغني عن بعض الملتزمات منهن لما بلغهن حديث:" لا تنتقب المرأة…": قلن: تنتقب ولا نكشف عن وجوهنا، ونفدي!

 

فقلت: سبحان الله! ما يفعل الجهل بأهله! فقد جعل الله لهن مخرجاً: أن يسترن وجوههن بالسدل، ولكن ذلك من آثار تشديد بعض المشايخ في تلك البلاد، مع إهمال التنبيه على الجوانب الأخرى المتعلقة بالمسألة والتيسير فيها.

 

وإني لأعتقد أن مثل هذا التشديد على المرأة لا يمكن أن يخرج لنا جيلاً من النساء يستطعن أن يقمن بالواجبات الملقاة على عاتقهن في كل البلاد والأحوال مع أزواجهن وغيرهم، ممن تحوجهم الظروف أن يتعاملن معهم، كما كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كالقيام على خدمة الضيوف، وإطعامهم، والخروج في الغزو، يسقين العطشى، ويداوين الجرحى، وينقلن القتلى، وربما باشرن القتال بأنفسهن عند الضرورة، فهل يمكن للنسوة اللاتي ربين على الخوف من الوقوع في المعصية -إذا صلت أو حجت مكشوفة الوجه والكفين- أن يباشرن مثل هذه الأعمال وهن منقبات ومتقفزات؟ لا وربي، فإن ذلك مما لا يمكن إلا بالكشف عن تعالى:{إلا ما ظهر منها}، كما سنرى في بعض الأمثلة الشاهدة لما كان عليه النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

 

الأول: عن فاطمة بنت قيس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:

 

" انتقلي إلى أم شريك". وأم شريك هي امرأة غنية من الأنصار العظيمة في سبيل الله، ينزل عليها الضيفان، فقلت: سأفعل. فقال:" لا تفعلي، إن أن شريك امرأة كثيرة الضيفان، فإني أكره أن يسقط خمارك…" الحديث. رواه مسلم، وهو مذكور بتمامه في "الجلباب" (ص66).

 

الثاني: عن سهل بن سعد قال:

 

"لما عرَّس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاماً ولا قدمه إليهم إلا امرأته أم أسيد… فكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس".

 

رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وهو مخرج في " آداب الزفاف".

 

الثالث: عن أسماء بين أبي بكر قالت:

 

"تزوجني الزبير وما له غي الأرض من مال ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه وأعجن…قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير-التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم- على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ، قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني، ثم قال:"إخ إخ". ليحميني خلفه، قالت: فاستحييت…" الحديث.

 

أخرجه البخاري (5224) ومسلم (7/11) وأحمد (6/347)، وابن سعد (8/250).

 

الرابع: عن جابر:

 

" أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى امرأة من الأنصار، فبسطت له عند صور- (والصور: النخلات المجتمعات) - ورشت حوله وذبحت شاة، وصنعت له طعاماً فأكل وأكلنا معه، ثم توضأ لصلاة الظهر فصلى، فقالت المرأة: يا رسول الله! قد فضلت عندنا من شاتنا فضلة، فهل لم في العشاء؟، قال: "نعم". فأكل وأكلنا، ثم صلى العصر ولم يتوضأ".

 

أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (4/116/2160) والطحاوي في " شرح المعاني" (1/39) من طريق محمد بن المنكدر عنه.

 

قلت: وإسناده صحيح، وأخرجه الحميدي في "مسنده" (533/1266) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل: أنه سمع جابر بن عبد الله به نحوه أتم منه، والزيادة له.

 

قلت: وإسناده حسن، ومن هذه الطريق أخرجه أحمد أيضاً (3/374-375) به نحوه دون الزيادة.

 

 (تنبيه): لقد توسع المعلق على " أبي يعلى " توسعاً غير محمود في تخريج الحديث وعزوه إلى عبد الرزاق وأصحاب السنن وابن حبان وغيرهم، موهماً أنه عندهم جميعاً بهذا التمام الذي عند أبي يعلى، وليس كذلك، وإنما عندهم الأكل في المرة الأولى والوضوء، ثم صلاة الظهر، ثم الأكل المرة الأخرى، ثم صلاة العصر ولم يتوضأ. وهو مخرج في " صحيح أبي داود" (186).

 

الخامس: عن أنس قال: " لما كان يوم أحد… رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سُليم، وإنهما لمشمِّرتان أرى خدم سوقهما (يعني: الخلاخيل)، تنفران (أي: تحملان) القِرَب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ".

 

أخرجه الشيخان. وهو في الكتاب (ص40).

 

السادس: عن الرُّبيِّع بنت معوذ قالت:

 

" كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونردُّ الجرحى والقتلى إلى المدينة".

 

أخرجه البخاري (2883)، وأحمد (6/358).

 

السابع، عن أم عطية قالت:

 

" غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى".

 

أخرجه مسلم (5/199) وابن أبي شيبة في "المصنف" (12/525)، وأحمد (5/84و6/407)، وابن سعد (8/455) وللبخاري (324) نحوه، والطبراني (5/55/121).

 

الثامن: عن أنس:

 

" أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها، فرآها أبو طلحة. فقال: يا رسول الله! هذه أم سليم معها خنجر! فقال لها رسول الله: "ما هذا الخنجر؟" قالت: اتخذته إن دنا أحد من المشركين بقرت به بطنه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك… الحديث".

 

أخرجه مسلم (5/196) وأحمد (3/112و190و198و286)، وابن سعد (8/425) والطبراني (25/119-120) وله عند أحمد طريق أخرى (3/108-109و279).

 

وفي رواية له والطبراني (25/123-124):

 

" كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فسيقين الماء ويداوين الجرحى".

 

وصححه الترمذي، وابن حبان، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (2284).

 

التاسع: عن ابن عباس قال:

 

" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، فيداوين الجرحى، ويُحذَين من الغنيمة".

 

أخرجه مسلم وغيره، وصححه الترمذي، وهو مخرج في"الإرواء (5/69/1236)، وصحيح (2438و2439).

 

 

ثم جرى الأمر على هذا المنوال بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وإليك بعض الأمثلة المتيسرة على شرطنا في الثبوت:

 

الأول: عن مهاجر الأنصاري:

 

" أن أسماء بنت يزيد الأنصارية شهدت اليرموك مع الناس، فقتلت سبعة من الروم بعمود فسطاط ظلتها".

 

أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" (3/2/307/2787)، والطبراني في" المعجم الكبير" (24/157/403) بإسناد حسن.

 

الثاني: عن خالد بن سيحان قال:

 

شهدت تُستر مع أبي موسى ومعنا أربع نسوة يداوين الجرحى، فأسهم لهن".

 

أخرجه ابن أبي شيبة (12/527) والبخاري في" التاريخ" (2/1/153) بسند يحتمل التحسين.

 

الثالث: عن الله بن قرط الأزدي قال:

 

" غزوت الروم مع خالد بم الوليد، فرأيت نساء خالد بن الوليد ونساء أصحابه مشمرات يحملن الماء للمهاجرين يرتجزن".

 

أخرجه سعيد (3/2/307/2788) بإسناد صحيح،وله عنده (2785) طريق آخر ضعيف معضل.

 

الرابع: عن أبي بلج يحيى بن أبي سُليم قال:

 

" رأيت سمراء بنت نهيك-وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم-عليها درع غليظ وخمار غليظ، بيدها سوط تؤدب الناس،وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر".

 

أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير" (24/311/785) بإسناد جيد، قال الهيثمي (9/264):

 

"ورجاله ثقات".

 

فأقول: هذه وقائع صحيحة تدل على ما كان عليه نساء السلف من الكمال والسماحة، والتربية الصحيحة، حتى استطعن أن يقمن بما يجب عليهن من التعاون على الخير، ولو لم يكن ذلك في الأصل واجباً عليهن، فكيف يكون حالهن إذا فرض الواقع ذلك عليهن مثل الدفاع عن النفس، كما فعلت أم سليم رضي الله عنها حين اتخذت يوم حنين خنجراً، ونحوه ما فعلته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وهي التي أدبها النبي صلى الله عليه وسلم بحديثها المتقدم:".. لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها وكفيها"، فقد روى ابن سعد (8/253) بسند صحيح:

 

" أن أسماء بنت أبي بكر اتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص للصوص، وكانوا قد استقروا في المدينة، فكانت تجعله تحت رأسها".

 

ذلك كله أثر من آثار تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهن على الحنيفية السمحة، التي لا إفراط فيها ولا تفريط، فكانوا كما قال الله تعالى:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران: 110)، وقال{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة: 143).

 

على هذا المنهج النبوي الكريم يجب على المشايخ والدعاة أن يقوموا بتربية الناس رجالاً ونساءً، ولن يستطيعوا ذلك إلا إذا تعرفوا على السنة، والسيرة النبوية الصحيحة التي تشمل: قوله صلى الله عليه وسلم، وفعله، وتقريره، وما كان عليه سلفنا الصالح مما صح عنهم، فإن فقه العالم لا يستقيم إلا بهذا كله، مستعيناً على ذلك بأقوال الأئمة المجتهدين والعلماء المحققين وإلا حاد عن الحق وسبيل المؤمنين، والله در شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين نبَّه على هذا-وهو من نفائسه، ولم أره لغير-بقوله المتقدم (ص 48):

 

" والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة ثبوت لفظه ودلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله".

 

واعتقادي أن العلماء لو التزموا هذا المنهج، لزال كثير من الخلاف القائم بينهم، بشرط أن يُخلصوا لله تبارك وتعالى في طلب الحق، والابتعاد عن التقليد الأعمى للمذاهب والآباء والأجداد الذي ابتلي به اليوم كثير من الناس. والله المستعان.

 

ومن خير ما أختم به كتابي هذا كفارة المجلس:

" سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

 

عمان

مساء الاثنين ذي الحجة سنة 1411

وكتب

محمد ناصر الدين الألباني