خلافة الحسن و تنازله عن الخلافة

قام الخوارج بالاتفاق على قتل علي و معاوية و عَمْرو –رضوان الله عليهم–، فضرب أشقاهم عليّاً في صلاة الفجر فجرح جرحاً بليغاً، أما معاوية فشفي من جرحه، و أما عَمْر فقتل غيره بدلاً منه. و قد طلب الشيعة من علي أن يستخلف عليهم الحسن من بعده، فرفض بشدّة لأن ذلك مخالف لمبدأ الشورى، و قال: «لا آمركم و لا أنهاكم. أنتم أبصر»[1].

و استشهد رحمه الله متأثراً بجرحه فبكى الناس لتلك الفاجعة. و هذا معاوية t، لمّا جاءه نعي علي بن أبي طالب t، جلس و هو يقول: «إنّا لله و إنّا إليه راجعون»، و جعل يبكي. فقالت امرأته: «أنت بالأمس تقاتله، و اليوم تبكيه»؟! فقال: «ويحك، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه و علمه و فضله و سوابقه و خيره». و في رواية «وَيحكِ، إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل و الفقه و العلم»[2].

ثم اجتمع أهل العراق يريدون مبايعة الحسن t، فاشترط عليهم «إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، و تحاربون من حاربت». فارتاب أهل العراق في أمرهم، و قالو ما هذا لكم بصاحب و ما يريد هذا القتال. فحاولو مبايعة الحسين t بدلاً منه فأبى، فاضطرو مرغمين إلى مبايعة الحسن. فقام الحسن و تنازل عن الخلافة لمعاوية و أصلح بين أهل العراق و أهل الشام كما جاء في الحديث الصحيح.

و أما أسطورة طلب الحسن لأن تكون الخلافة له من بعده، فليست صحيحة، حيث أنها تتنافى مع قوة و كرم الحسن. فكيف يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء الأمة و ابتغاء مرضاة الله، ثم يوافق على أن يكون تابعاً يتطلب أسباب الدنيا و تشرأب عنقه للخلافة مرة أخرى؟! و الدليل على هذا ما ذكره جبير بن نفير قال: «قلت للحسن بن علي إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة». فقال: «كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت و يحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله، ثم أبتزها بأتياس أهل الحجاز؟!»[3].

و هذا من أعظم فضائله و أدلها على زهده في الدنيا و حبه لإصلاح أمور المسلمين. فكيف إذا زدنا فوق ذلك شرف نسبه الكريم؟ قال معاوية t مرة لجلسائه: «مَن أكرم الناس أباً و أماً، و جداً و جدةً، و عماً و عمةً، و خالاً و خالةً؟». فقالو: «أمير المؤمنين أعلم». فأخذ بيد الحسن t، و قال: «هذا! أبوه علي بن أبي طالب و أمه فاطمة ابنة محمد r، و جدّه رسول الله r و جدته خديجة، و عمه جعفر و عمته هالة بنت أبي طالب، و خاله القاسم بن محمد و خالته زينت بنت محمد r»[4].

و من الملفت للنظر هنا أن نلاحظ أنه لم يتولّ أحدٌ من ذريّة الحسين تقريباً. و أما العبيديون بمصر فهم أدعياء للنسب الفاطمي، إذ هم ينتسبون حقيقة لعبيد الله بن قداح اليهودي. أما أبناء الحسن فقد حكمو المغرب و شمال إفريقيا منذ أوّل العهد العباسي و حتى فترة طويلة. أمّا الخلافة فيكفيهم أن آخر الخلفاء الراشدين منهم. قال الإمام بن القيم الجوزية بعد إسراده لحديث فيه أن المهدي الذي يخرج في آخر الأمة هو من نسل الحسن t: «و في كونه من ولد الحسن سرٌّ لطيف، و هو أن الحسن t ترك الخلافة لله، فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض. و هذه سُنَّة الله في عباده، أنه من ترك لأجله شيئاً، أعطاه الله أو أعطى ذريته أفضل منه. و هذا بخلاف الحسين t فإنه حرص عليها و قاتل عليها، فلم يظفر بها. و الله أعلم»[5].

 



[1]  و هذا ثابت حتّى في المصادر الشيعية. إنظر: الشافي (ج3\ص295)، و تثبيت دلائل النبوة (1\212)، و مقتل الإمام أمير المؤمنين لأبي بكر بن أبي الدنيا  (ص43). و قريباً منه في مروج الذهب (2\44) و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (4\8) و (16\22).

[2]  البداية والنهاية (8/15-133).

[3]  البلاذري في أنساب الأشراف (3/49)، و طبقات ابن سعد، الطبقة الخامسة (ص 258) بسند جيد.

[4]  العقد الفريد \ اليتيمة الثانية.

[5]  المنار المنيف (ص151).