تحليلات حول خروج الحسين

و هنا يبرز سؤال ملح: و هو كيف يجمع عدد من الصحابة و كبراؤهم و كبار التابعين و أصحاب العقل منهم، و من له قرابة بالحسين على رأي واحد و هو الخوف على الحسين من الخروج و أن النتيجة معروفة سلفاً، و في المقابل كيف يصر الحسين على رأيه و ترك نصائح الصحابة و كبار التابعين؟

و الإجابة على هذا السؤال تكمن في سببين اثنين: الأول: وهو إرادة الله جل وعلا و أن ما قدره سيكون و إن أجمع الناس كلهم على رده فسينفذه الله لا راد لحكمه ولا لقضائه سبحانه وتعالى. الثاني: و هو السبب الواقعي الذي تسبب في وجود الأمر الأول، و هو أنَّ الحسين رضي الله عنه أدرك أن يزيد بن معاوية لن يرضى بأن تكون له حرية التصرف و البقاء بدون حمله بالقوة على البيعة. و لن يسمح يزيد بأكثر مما حدث، فرسل تأتي و رسل تذهب و دعوة عريضة له بالكوفة، كل هذا يجعل جعل الحسين بأن موقفه في مكة يزداد حرجاً، و هو يمانع البيعة للخليفة دون أن يكون هناك ما يبرر موقفه بشكل واضح[1]. ثم إن خشية الحسين من وقوع أي مجابهة بينه و بين الأمويين في مكة هو الذي جعله يفكر بالخروج من مكة سريعاً، و هو ما أكده لابن عباس، ولعل الأمر الذي جعله يسارع في الخروج إلى الكوفة هي الصورة المشرقة والمشجعة التي نقلها له ابن عمه لحال الكوفة و أنها كلها مبايعة له.

و في نظري أن مسلم بن عقيل و الحسين رضي الله عنهما لم يكونا يحيطون بكثير من أمور السياسة، فمسلم بن عقيل وثِق في تلك الآلاف المبايعة للحسين، و ظن أن هؤلاء سيكونون مخلصين أوفياء. و لم يجعل في حسبانه أن العاطفة هي المسير لتلك الأعداد، فكان على مسلم بن عقيل أن يستثمر الوضع لصالحه وأن يعايش الواقع الفعلي حتى يخرج بتصور صحيح. و أما أن يرسل للحسين منذ الوهلة الأولى و يوهمه بأن الوضع يسير لصالحه، فهذا خطأ كبير وقع فيه مسلم بن عقيل. ثمَّ إنَّ الحسين t وثق بكلام مسلم بن عقيل و صدَّق أن الكوفة ستقف معه بمجرد مجيئه إليها، و نسي أن الكوفة هي التي عانى أبوه منها أشد المعاناة من التخاذل و التقاعس و عدم الامتثال لأوامره، ثم كانت النهاية باغتياله رضي الله عنه. ثمَّ إنَّ أخاه الحسن واجه الغدر والمكيدة من أهل الكوفة، و كان يحذره منهم حتى على فراش الموت. ثم إن الذين نصحوه يحملون حساً سياسياً واضحاً، فالكل حذره و بين خطأه الذي سيقدم عليه، و من المستحيل أن يكون كل الناصحون على خطأ و أن فرداً واحداً هو على الحق و بالأخص إذا عرفنا من هم الناصحون. لكنه قدر الله، و حدث ما حدث و قتل الحسين في معركة كربلاء، لكن لنقف مع تقويم لهذه المعارضة من قبل الحسين t.

و هذا الخطأ هو خطأ دنيوي في حساب العصبية و ليس في حكم شرعي. و اعتراض الصحابة كلهم هو على هذا. و قد غلط و أفحش في الغلط من ظنَّ أن الحسين t كان خارجاً على الإمام، و أن ما أصابه كان جزاءاً عادلاً و ذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية[2] تدين الخروج على الولاة. و لا حول و لا قوة إلا بالله. فأيّ غلط أشنع مما وقع به هؤلاء؟!

فالحسين t عندما رأى أن أهل الكوفة يريدونه و يطلبونه للقدوم إليهم، فكّر في أن يستغل هذا الشعور في التأثير على يزيد فيرى يزيد أن المسألة قد تفاقمت و قام أهل الكوفة مع الحسين و لربما تقوم معه مناطق أخرى، فيتراجع عن قرار جعل الحكم وراثياً في الأمويين، أو على الأقل لا يجرئ على إجبار الحسين t على مبايعته. و هذا الذي قصده الحسين و ابن الزبير رضي الله عنهما من خروجهما. و لم يكن الحسين t يريد بخروجه إلى الكوفة القتال، أو المواجهة مع يزيد، و لم يكن يتوقعه، حتى أنه عندما وصلته الأخبار بتخاذل أهل الكوفة و مقتل مسلم بن عقيل فكر بالرجوع، لكنَّ أبناء و إخوة مسلم هم الذي أصرو على القدوم إلى الكوفة و طلب الثأر ممن قتله. لذلك يقول إبن تيمية: «و الحسين t ما خرج يريد القتال، و لكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر أو إتيان يزيد. فلم يمكِّنه أولئك الظلمةَ لا من هذا و لا من هذا و لا من هذا، و طلبو أن يأخذوه أسيراً إلى يزيد، فامتنع من ذلك و قاتل حتى قتل مظلوماً شهيداً لم يكن قصده ابتداء أن يُقاتِل»[3].

و لقد تعنَّت ابن زياد أمام تنازلات الحسين، و كان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه. و لكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين و هو أن ينزل على حُكْمِهِ. و كان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب، و حُقّ للحسين أن يرفض ذلك، لأنَّ النزول على حكم ابن زياد لا يَعلم نهايته إلا الله. ثمَّ إن فيه إذلالاً للحسين و إهانته الشيء الكبير. ثم إن هذا العرض كان يعرضه الرسول r على الكفَّار المحاربين، والحسين t ليس من هذا الصنف. و لهذا قال شيخ الإسلام: «أهل السنة والجماعة يرون أنَّه قتل مظلوماً شهيداً. و الحديث المذكور لا يتناوله بوجه. فإنه رضي الله عنه لما بعث ابن عمه عقيلا إلى الكوفة فبلغه أنه قتل بعد أن بايعه طائفة فطلب الرجوع إلى بلده فخرج إليه السرية التي قتلته فطلب منهم أن يذهبو به إلى يزيد أو يتركوه يرجع إلى مدينته أو يتركوه يذهب إلى الثغر للجهاد فامتنعو من هذا وهذا. و طلبو أن يُسْـتأسـَرَ لهم ليأخذوه أسيراً. و معلومٌ باتفاق المسلمين أنَّ هذا لم يكن واجباً عليه، و أنه كان يجب تمكينه مما طلب. فقاتلوه ظالمين له. و لم يكن حينئذٍ مريداً لتفريق الجماعة و لا طالباً للخلافة. و لا قاتـَلَ على طلبِ خلافةٍ، بل قاتل دفعاً عن نفسه لمن صال عليه و طلب أسره»[4]. فكيف يسمى الحسين t من البغاة الخارجين و هو يعرض الصلح و هم لا يرضونه؟! نعوذ بالله من ذلك التعنُّت.

ثم أنَّ نُصْحَ الصحابة للحسين يجب أن لا يفهم على أنهم يرونه خارجاً على الإمام، و أنّ دمه حينئذ يكون هدراً، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم أدركو خطورة أهل الكوفة على الحسين وعرفو أن أهل الكوفة كذابين، و قد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم. فهذا الخطأ هو خطأ في حساب العصبية فحسب، لأن عصبية الشيعة ضعيفة لا تنهض بأيِّ حالٍ أمام عصبية بني أمية القوية.

يقول ابن خلدون: «فتبين بذلك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه. وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه، لأنه منوط بظنه، و كان ظنه القدرة على ذلك. و أما الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانو بالحجاز و مصر و العراق و الشام و الذين لم يتابعو الحسين رضوان الله عليه، فلم ينكرو عليه و لا أثمّوه، لأنه مجتهد و هو أسوة للمجتهدين به»[5].

و يقول شيخ الإسلام: «و أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله. فإنه رضي الله عنه لم يفارق الجماعة، و لم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى يزيد، و داخلاً في الجماعة معرِضاً عن تفريق الأُمَّة. و لو كان طالب ذلك أقلَّ الناس لوجب إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجِبُ إجابة الحسين؟!»[6]. و يقول في موضع آخر: «و لم يقاتل و هو طالب الولاية، بل قـُتِل بعد أن عرضَ الانصراف بإحدى ثلاث.. بل قتل و هو يدفع الأسر عن نفسه، فقتل مظلوماً»[7].

 



[1]  لم يوضِّح الحسين سبب إعراضه عن مبايعة يزيد. و لكن الظاهر أنه خشي أنه لو سكت و بايع لأصبح سكوت الصحابة حجة في إقرار نظام الملكية بدلاً من نظام الشورى. و هكذا كان دأبهم في جرأتهم على الحق حتى لو كلفهم ذلك حياتهم. فلله درّهم ما أحسن ما كانو عليه.

[2]  مثالها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يفرق بين المسلمين و هم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان». صحيح مسلم (12/241). قال السيوطي: أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم. عقد الزبرجد (1/264). و قال النووي معلقاً على هذا الحديث: الأمر بقتال من خرج على الأمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك و ينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل و كان دمه هدراً. و الغريب أن ذلك الحديث ثابت عند الشيعة أيضاً. إنظر عيون أخبار الرضا (2\62).

[3]  منهاج السنة (4/42).

[4]  منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة و القدرية (8\147).

[5]  المقدمة (ص271).

[6]  منهاج السنة (4/556).

[7]  منهاج السنة (6/340).