خروج الحسين

بعد أن توفي معاوية t و بويع ليزيد بالخلافة في الشام (و ذلك سنة 60هـ)، كتب يزيد إلى والي المدينة –الوليد بن عتبة بن أبي سفيان– أن يدعو الناس للبيعة و أن يبدأ بوجوه قريش[1]. فاستشار الوليد بن عتبة مروان بن الحكم فأشار عليه بأن يبعث في طلب الحسين و ابن الزبير للبيعة، فيروي خليفة في تاريخه (ص233): أن ابن الزبير حضر عند الوليد و رفض البيعة و اعتذر بأن وضعه الاجتماعي يحتم عليه مبايعته علانية أمام الناس، و طلب منه أن يكون ذلك من الغد في المسجد إن شاء الله. و استدعى الحسين بعد ذلك و يبدو أن الوليد تحاشى أن يناقش معه موضوع البيعة ليزيد، فغادر الحسين مجلس الوليد من ساعته، فلما جنّ الليل خرج ابن الزبير و الحسين متجهين إلى مكة كل منها على حدة[2]. أما إبن عمر و إبن عباس فقد بايعا طائعين غير مكرَهَين.

في طريق مكة التقى الحسين و ابن الزبير بابن عمر و بعد الله بن عياش، و هما منصرفين من العمرة قادمين إلى المدينة، فقال لهما ابن عمر: «أذكِّركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس و تنظران فإن اجتمع الناس عليه لم تشُذا، و إن افترق عليه كان الذي تريدان»[3]. فلمَّا علمت شيعة الكوفة بموت معاوية و خروج الحسين إلى مكة و رفض البيعة ليزيد، فاجتمع أمرهم على نصرته، ثم كتبو إليه. و بعد توافد الكتب على الحسين و هو بمكة و جميعها تؤكد الرغبة في حضوره و مبايعته، نستطيع أن نقول: إن الحسين لم يفكـِّر بالخروج إلى الكوفة إلا عندما جاءته الرسل من الكوفيين يدعونه بالخروج إليهم، و أنَّهم يدعونه مرحبين به طائعين، فأراد الحسين أن يتأكد من صحة هذه الأقوال، فأرسل مسلم بن عقيل بن أبي طالب –ابن عمه– لينظر في أمر أهل الكوفة و يقف على الحقائق بنفسه[4].

فلمَّا وصل مسلم إلى الكوفة تيقن أن الناس يريدون الحسين، فبايعه الناس على بيعة الحسين و ذلك في دار هانئ بن عروة. و كتب إلى الحسين يدعوه إلى الخروج إلى الكوفة و أن الأمر مهيأ لقدومه. و لما بلغ الأمر يزيد بن معاوية في الشام أرسل إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة ليعالج هذه القضية، و يمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين و لم يأمره أبداً بقتل الحسين. فدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، و أخذ يتحرى الأمر و يسأل حتى علم أن دار هانئ بن عروة هي مقر مسلم بن عقيل و فيها تتم المبايعة.

فخرج مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد و حاصر قصره بأربعة آلاف من مؤيديه، و ذلك في الظهيرة. فقام فيهم عبيد الله بن زياد و خوَّفهم بجيش الشام و رغَّبهم و رهَّبهم فصارو ينصرفون عنه حتى لم يبق معه إلا ثلاثون رجلاً فقط. و ما غابت الشمس إلا و مسلم بن عقيل وحده ليس معه أحد. فقبض عليه و أمر عبيد الله بن زياد بقتله. فطلب منه مسلم أن يرسل رسالة إلى الحسين، فأذن له عبيد الله. فكتب له: «إرجع بأهلك و لا يغرَّنّك أهل الكوفة فإن أهل الكوفة قد كذَّبوك و كذَّبوني و ليس لكاذبٍ رأي». ثم أمر عبيد الله بقتل مسلم بن عقيل و ذلك في يوم عرفة.

و قد تتابعت النصائح من الصحابة و التابعين تنهى الحسين عن الخروج إلى الكوفة. و من الذين نصحوا: محمد بن الحنفية –أخوه-، و ابن عباس و ابن عمر و ابن الزبير[5] و أبو سعيد الخدري و جابر بن عبد الله و عبد الله بن عَمْرو بن العاص[6]، و غيرهم الكثير، ينهونه عن القدوم إلى الكوفة. غير أن هذه النصائح الغالية الثمينة لم تؤثر في موقف الحسين حيال خروجه إلى الكوفة، بل عقد العزم على الخروج، فأرسل إلى المدينة و قدم عليه من خفّ من بني عبد المطلب، و هم تسعة عشر رجلاً و نساء و صبياناً من اخوته و بناته و نسائه، فتبعهم محمد بن الحنفية و أدرك الحسين قبل الخروج من مكة فحاول مرة أخرى أن يثني الحسين عن خروجه لكنه لم يستطع[7].

و جاء ابن عباس و نصحه فأبى إلا الخروج إلى الكوفة، فقال له ابن عباس: «لولا أن يزري –يعيبني و يعيرني– بي و بك الناس لشبَّثت يديَّ من رأسك، فلم أتركك تذهب. إلى أين تخرج؟ إلى قوم قتلو أباك و طعنو أخاك؟». فقال –أي الحسين–: «لأن أُقـْتـَلُ بمكان كذا و كذا أحبُّ إليَّ من أستحل حرمتها» –يعني الكعبة–. فقال ابن عباس –فيما بعد–: «و كان ذلك الذي سلى نفسي عنه». و كان ابن عباس من أشد الناس تعظيماً للحرم[8].

و لمَّا علم ابن عمر بخروج الحسين أدركه على بعد ثلاث مراحل من المدينة، فقال للحسين «أين وِجْهَتك؟». فقال: «أريد العراق»، ثم أخرج إليه كتب القوم، ثم قال: «هذه بيعتهم و كتبهم»، فناشده الله أن يرجع، فأبى الحسين، ثم قال ابن عمر: «أحدِّثك بحديث ما حدَّثت به أحداً قبلك: إن جبريل أتى النبي r يخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، و إنَّكم بِضْعَةٌ منه، فوَ الله لا يليها أحد من أهل بيته. ما صرفها الله عنكم إلا لما هو خيرٌ لكم. فارجع أنت تعرف غدر أهل العراق و ما كان يلقى أبوك منهم». فأبى، فاعتنقه و قال: «استودعتك من قتيل»[9].

لكن هذه النصائح والتحذيرات لم تثن الحسين عن إرادته و عزمه على الخروج نحو الكوفة. فلما كان في الطريق جاء الحسين خبر مسلم بن عقيل عن طريق الذي أرسله مسلم، فانطلق الحسين يسير نحو طريق الشام نحو يزيد، فلقيته الخيول بكربلاء بقيادة عمرو بن سعد و شمّر بن ذي الجوشن و حصين بن تميم. فنزل يناشدهم الله و الإسلام أن يختارو إحدى ثلاث: أن يسيِّروه إلى أمير المؤمنين (يزيد) فيضع يده في يده (لأنه يعلم أنه لا يحب قتله)، أو أن ينصرف من حيث جاء (إلى الحجاز)، أو يلحق بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفّاه الله[10]. فقالو: لا، إلا على حُكْم عبيد الله بن زياد. فلما سمع الحرّ بن يزيد ذلك (و هو أحد قادة ابن زياد) قال: «ألا تقبلو من هؤلاء ما يعرضون عليكم؟ و الله لو سألكم هذا الترك و الدّيلم ما حلَّ لكم أن تردوه». فأبو إلا على حكم ابن زياد. فصرف الحر وجه فرسه، و انطلق إلى الحسين و أصحابه، فظنو أنه إنما جاء ليقاتلهم، فلما دنا منهم قلب ترسه و سلَّم عليهم، ثم كرّ على أصحاب ابن زياد فقاتلهم، فقتـَل منهم رجلين ثم قٌتِل رحمة الله عليه[11].

ولا شك أن المعركة كانت غير متكافئة من حيث العدد، فقتل أصحاب الحسين (رضي الله عنه وعنهم) كلهم بين يديه يدافعون عنه حتى بقي وحده و كان كالأسد. و لكنها الكِثرة. و كان كلّ واحدٍ من جيش الكوفة يتمنَّى لو غيره كفاه قتل الحسين حتى لا يبتلى بدمه t، حتى قام رجل شيعي خبيث يقال له شمر بن ذي الجوشن[12] فرمى الحسين برمحه فأسقطه أرضاً فاجتمعو عليه و قتلوه شهيداً سعيداً. و يقال أن شمر بن ذي الجوشن هو الذي اجتز رأس الحسين و قيل سنان بن أنس النخعي و الله أعلم.

و لم يثبُت أنَّ رأس الحسين أُرسِل إلى يزيد بالشام بل الصحيح أن الحسين قتِل في كربلاء و رأسه أخِذ إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة، فذهب برأسه الشريف فجعله في طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ عليه، و وضَعَ قَضِيبًا فِي يَده فِي عَيْنه وَأَنْفه، و قال في حُسْنِهِ شيئاً. فقال أنس بن مالك t: «إنَّه كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ»[13]. و قال: «إرفع قضيبك فقد رَأَيْت رسول الله r يَلْثِم[14] حَيْثُ تَضَع قَضِيبَك». فَانْقَبَضَ عبيد الله[15]. و لا يُعلَم موضع قبر الحسين[16].

قال الحافظ ابن كثير: «فكلّ مسلم ينبغي له أن يحزنه قتل الحسين t، فإنه من سادات المسلمين، و علماء الصحابة و ابن بنت رسول الله التي هي أفضل بناته. و قد كان عابداً و سخيَّاً. و لكن لا يحسن ما يفعله الناس من إظهار الجزع و الحزن الذي لعل أكثره تصنُّعٌ و رياء. و قد كان أبوه أفضل منه فقتل، و هم لا يتَّخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين. فإن أباه قتل يوم الجمعة و هو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين... و رسول الله سيد ولد آدم في الدنيا و الآخرة، و قد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، و لم يتَّخذ أحدٌ يوم موتهم مأتماً، و لا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم. و قبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس و الحمرة التي تطلع في السماء و غير ذلك».

و أما قصة منع الماء و أنه مات عطشاناً و غير ذلك من الزيادات التي إنما تذكر لدغدغة المشاعر فلا يثبت منها شيء. و ما ثبت يغني. و لا شك أنها قصة محزنة مؤلمة، و خاب و خسر من شارك في قتل الحسين و من معه وباء بغضب و سخطٍ من ربه عظيم[17]. و للشهيد السعيد و من معه الرحمة و الرضوان من الله، و منَّا الدعاء و الترضِّي.

 



[1]  انظر: ابن سعد في الطبقات (5/359) بإسناد جمعي، و تاريخ خليفة (ص 232) بإسناد فيه محمد بن الزبير الحنظلي، و هو متروك. و الظاهر أن هذه البيعة هي لتأكيد البيعة الأولى، و إلا فإن البيعة الأولى ثابتة و ملزمة لهم، و الله أعلم.

[2]  رواية خليفة هي الأقرب –في نظري– إلى الحقيقة، فإضافة إلى تسلسل الحدث فيها، فإن الرواية نفسها عن جويرية بن أسماء و هو مدني.

[3]  ابن سعد في الطبقات (5/360) والمزي في تهذيب الكمال (6/416) من طريق ابن سعد، و الطبري (5/343) لكنه ذكر أن الذي لقيهما ابن عمر وابن عباس، و لعله تحريف في اسم عياش، والصحيح أن ابن عباس كان موجوداً بمكة حينذاك.

[4]  انظر: تاريخ الطبري (5/354 ) و البلاذري في أنساب الأشارف (3/159).

[5]  أخرج ابن أبي شيبة بإسناد حسن قال: لقي عبد الله بن الزبير، الحسينَ بن علي بمكة فقال:«يا أبا عبد الله. بلغني أنك تريد العراق؟». قال: «أجل». قال: «فلا تفعل، فإنهم قتلة أبيك، الطاعنين بطن أخيك، و إن أتيتهم قتلوك». المصنف (7/477).

[6]  قال عبد الله بن عمرو بن العاص: «عجّل الحسين قدره، و الله لو أدركته ما تركته يخرج إلا أن يغلبني». رواه يحيى بن معين بسند صحيح.

[7]  انظر: ابن سعد في الطبقات (5/266-267).

[8]  انظر: مصنف ابن أبي شيبة (7\477) طبعة مكتبة الرشد، بإسناد صحيح. و الطبراني في المعجم الكبير (3\119) طبعة الموصل. و قال الهيثمي في المجمع (9\192) و رجاله رجال الصحيح، و الذهبي في السير (2\292) و غيرهم الكثير.

[9]  ابن سعد في الطبقات (5/360) و ابن حبان (9/58) وكشف الأستار (3/232-233) بسند رجاله ثقات. و عند غيرهم.

[10]  رواه ابن جرير من طريق حسن.

[11]  ابن جرير بسند حسن.

 [12] ليس من المستغرب على الشيعة قتل الحسين t و قد سبق و حاولوا قتل الحسن t. والحقيقة التي يجمع الشيعة والسنة عليها أن الجيش الذي قتل الحسين t كوفي قد خرج من الكوفة، مركز الشيعة الأساسي. و شمر بن الجوشن (شرحبيل بن قرط الضبابي) كان شيعياً، و كذلك باقي رؤوس المجرمين والقتلة من أمثال محمد بن الأشعث (كان من قواد علي t) و زحر بن قيس و شبعث بن ربعي: قد قاتلوا مع علي t في الجمل وصفين، و كانو من شيعته.

 إنظر: الكامل في التاريخ (4\92) و ميزان الاعتدال (1\449) و لسان الميزان (3\152) و جمهرة الأنساب (ص72) و سفينة البحار (1\714) و الأعلام (3\175) و ابن الأثير (4\55) و "البداية و النهاية" (7\270).

[13]  رواه البخاري برقم 3465 في باب المناقب.

[14]  أي يضع فمه.

[15]  رواه البزّار و الطَّبَراني و نحوه التِّرمِذي و ابن حبَّان. فتح الباري (7/96).

[16]  المشاهد الموجودة في كل من دمشق و الرقة و عسقلان و القاهرة و كربلاء، التي تزعم بأن الرأس مقبور فيها، لم يثبت بأدنى دليل على وجود الرأس بها. و الصواب أن الرأس مدفون في المدينة في مقبرة البقيع عند قبر أمه فاطمة t، و هو الصحيح المشهور و الذي رجحه كل من شيخ الإسلام ابن تيمية و القرطبي و الحافظ أبو يعلى و الزبير بن بكار، و ابن الجوزي و ابن أبي الدنيا، و غيرهم.

و بذلك يكون رأس الحسين مقبوراً بجانب أمه فاطمة t، و هو الموافق لما ثبت في الروايات من حسن تعامل يزيد مع آل الحسين. ثم هو الأقرب إلى الواقع الذي يملي على يزيد إرساله (أي الرأس) إلى المدينة ليقبر بجانب أمه t. و للمزيد حول هذا الموضوع راجع رسالته موقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للأخ محمد بن عبد الهادي الشيباني (ص306-325).

 [17] قال شيخ الإسلام بن تيمية: «من قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً». مجموع فتاوى إبن تيمية (4\487)، مسألة في يزيد.