العرب قبل الإسلام

المسلمون في العهد المكي

العصبية في العهد المدني

حروب الردة

الفرس تحت الحكم الإسلامي

فتح الشام و مصر

 

العصبية في التاريخ الإسلامي

العرب قبل الإسلام

إعلم أن العرب كانت في الجاهلية قبائل بدوية متناحرة لا يجمع بينها رابط أو عصبية. حتى إذا جاءت الدعوة الإسلامية، كانت القبائل العربية تنهض من حروب أهلية طويلة مضنية، بينما تعاني دولتي الحيرة و الغساسنة من سيطرة الروم و الفرس عليهما و دخولهما في رحى الحرب بينهما. و عانت اليمن من احتلال الأحباش و الفرس. لقد كانت العرب تتطلع إلى الخلاص إلى معجزة توقف نزيف الدم المستمر و تخرجهم من دوامة الفقر و التفرق. هذه الحروب قد ساعدت في إخراج العرب إلى الجيل الأول و هيئت بيئة خصبة للإسلام. و هي أقرب ما يكون إلا ما سميناه بالحرب الأهلية.

و رغم ما كان في العرب من خصال حميدة على غيرهم من الأمم كالكرم و الشجاعة فإن أحداً لم يكن و لا حتى يتوهم بأن تلك القبائل المتناحرة المتقاتلة ستجتمع يوماً ما تحت إمرة رجل واحد و تكون لهم عصبية واحدة. و هذا لأن جمع تلك القبائل البدوية ذات العصبيات المختلفة في دولة واحدة، أمر لا يمكن أن يكون بالقوة و الاستبداد. فقد حاول أحد أباطرة الروم غزو الجزيرة فهزم جيشه في الصحراء. و هُزِم الفرس أيضاً في ذي قار فلم يتجاوز حكمهم الفرات. و حاول الأحباش بقيادة أبرهة احتلال مكة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سِجِّيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول. فلم تتمكن أي من تلك الأمم –على قوتها و عظمتها– من احتلال جزيرة العرب فضلاً أن تتمكن من جمع قلوب أهلها على عصبية واحدة.

و الحق يقال أنه لو لم يكن لنبينا محمد r معجزة إلا توحيد العرب على العصبية الإسلامية، لكفت تلك على إثبات نبوته. و قد شهد الله على ذلك فقال ]وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[[1]. ذلك أنه لو كان يدعوهم في سبيل الدنيا، فإن النفس تنزع للاختلاف طمعاً في مال أو منصب أو جاه. فيستحيل محو عداوات دامت مئات السنين. و يتعذر أن ينسى أولئك الأعراب أمجاد و حروب آبائهم. أما و قد دعاهم للآخرة، فإن النفس تترفع عن حطام الدنيا كله في سبيل الأجر من الله عز و جل. و ما عند الله خير و أبقى.

المسلمون في العهد المكي

عانى المسلمون خلال ثلاثة عشر عاماً من الدعوة المكية الكثير من الأذى و التعذيب و القهر و الحصار و الجوع حتى اشتدت عصبيتهم و قويت شوكتهم. و لذلك أصبحت عصبية المهاجرين فيما بعد أقوى من عصبية الأنصار و باقي العرب.

و قد كان بإمكان رسول الله r أن يدعو الله على من يعذبهم فيهلكهم الله كما فعل بأقوام من قبلهم. إلا أن الله كان له حكمة عظيمة في عدم إهلاك قريش. و من ذلك أنه أراد أن يشرع ما نسميه بفقه الاستضعاف، ليعلم الأجيال المسلمة القادمة الصبر و الانتظار و عدم التعجل حتى تقوى عصبيتهم و يكثر عددهم و تشتد قوتهم. فيمر رسول الله r بعمار وأم عمار وهم يُعَذَّبون بمكة فيقول: «صبراً يا آل ياسر، فإنَّ مصيركم إلى الجَنّة». ثبت في الصحيح عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ[2] فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ. قُلْنَا لَهُ أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا[3]؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَ مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَ يُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَ مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَ اللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ[4] حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ. وَ لَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ[5]»[6].

وقال سيد قطب: «ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية و إعداد في بيئة معينة لقوم معينين وسط ظروف معينة. و من أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به، ليخلص من شخصه، و يتجرد من ذاته، و لا تعود ذاته و لا من يلوذون به محور الحياة في نظره، و دافع الحركة في حياته. و تربيته كذلك على ضبط أعصابه فلا يندفع لأول مؤثر كما هي طبيعته، و لا يهتاج لأول مهيّج، ليتم الاعتدال في طبيعته و حركته. و تربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، و لا يتصرف إلا وفق ما تأمره مهما يكن مخالفاً لمألوفه و عادته. و قد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي لإنشاء المجتمع المسلم الخاضع لقيادة موجهة»[7].

و هذا لم يكن اجتهاد من أحد بل كان أمراً من الله عز و جل. و لهذا فقد قال رسول الله r لمن قال له من أصحابه: «كنا في عز و نحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة»، «إني أُمِرْتُ بالعفو فلا تقاتلو..» الحديث[8]. و عندما استأذنه أهل يثرب ليلة العقبة أن يميلو على أهل مِنى فيقتلوهم، أجابـهم رسول الله r: «إني لم أؤمر بـهذا»[9].

و سنمر على هذا إن شاء الله في بحث الخوارج و البغاة. و لكن بحثنا سيكون رداً عن بعض الجهلة الذين يتوهمون أن كل فقه الاستضعاف و كل ما نستفيده من السيرة النبوية في العهد المدني، منسوخ لا فائدة من ذكره! و يزعمون أن آية السيف في سورة التوبة نسخت كل آية سبقتها عن الجهاد أو الصبر على أذى المشركين، أي أن عدد هذه الآيات المنسوخة يبلغ مائة و أربع عشرة آية!

و هذا خطاً بالتأكيد لأن الحكم يدور مع علته وجوداً و عدماً. قال السِّـيوطي في أقسام النَّسخ من الإتقان: «ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف و القلة و الصبر و الصفح، ثم نسخ بإيجاب القتال. و هذا في الحقيقة ليس نسخاً بل هو من قسم المنسأ كما قال تعالى ]أو ننسأها[ فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، و في حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى»[10]. و قد ذكر الزركشي قبله مثل ذلك[11]. و تبعه في ذلك الزرقاني[12] و رشيد رضا[13] و سيد قطب[14]. فيقول الأخير مثلاً: «إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعاً معيناً. و هذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. و في هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية، لأن واقعها يقرر أنـها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. و لكن هنا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، و أن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدماً في تحسين ظرفها، و في إزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في سورة التوبة، و التي كانت تواجه واقعاً غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية»[15].

و اعتبر علماء السلف أن المرحلة الأخيرة للجهاد ناسخة لبقية المراحل. و هذا مروي عن كثير من السلف مثل ابن عباس، و الضَّحَّاك، و مجاهد، و الحسن، و عِكرمة، و قتادة، و عطاء، ثم من تبعهم مثل ابن تيميّة، و الشّوكاني، و القرطبي. و هذا لا يتعارض أبداً مع قول المتأخرين، لأن الإختلاف هو على مصطلح و تعريف النسخ فحسب. فالنسخ عند المتأخرين معناه الإزالة نهائياً، بينما عند السلف معناه أوسع إذ يشمل التقييد و البيان و التخصيص. و قد أثبت ذلك إبن تيمية في شرحه لمفهوم النسخ عند السلف[16].

و إلا فالسلف لا يكلـِّفون المستضعَف من المسلمين الذي حاله مشابهة لحال الرسول في مكة بالقتال. و إنما الواجب عليه أن يجتهد لكي يصل إلى حال قوة يجاهد فيها الكفار. إذاً لقد اتفق العلماء المتقدمون و المتأخرون على أن سورة التوبة لم تلغ أحكام الآيات التي سبقتها بحيث لا يجوز العمل بها في أي حالةٍ من الحالات التي تمر بها الأمة الإسلامية.

العصبية في العهد المدني

نجد أن الخزرج شاركوا في بدر أكثر من الأوس و ذلك لكون أخوال أبو الرسول r من بني النجار (طائفة من الخزرج)، ممّا يؤكّد على استمرار العصبية القبلية في الإسلام، و لو لم تكن ظاهرة لطغيان العصبية الدينية عليها. و خلال عشر سنين من الدعوة المدنية توسّعت الدولة الإسلامية، و قويت دعائمها، و امتدت لتشمل الجزيرة العربية بأكملها، و أسلم كلّ العرب. لكنّ الإسلام لم يستطع بــعــد أن ينتزع العصبية القبلية (من بعض القبائل التي أسلمت حديثاً) و يحلّ محلّها العصبية الإسلامية. و من هنا قلنا أن الدولة تحتاج إلى عشرة سنين في الجيل الأول حتى تبسط قوتها و يستتب لها الأمر.

و من المُسَلَّم به أن أشدَّ المسلمين إيماناً –بشكل عام– هم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم من أسلم قبل الفتح، ثم من أسلم بعده. و ذلك لأن من أسلم في مكة ببدء الدعوة و تحمل التعذيب الشديد، فإن العصبية عنده صارت أقوى من غيره. عدا أن من المتعذر أن يكون قد أسلم نفاقاً. أما من أسلم في المدينة قبل الهجرة فقد آمن رغم أن الإسلام ما يزال ضعيفاً، و لو أنه لم يتحمل ذلك العذاب، فالنفاق مستبعد إلا ممن أسلم مضطراً خوفاً من أن يفقد مكانته بين قومه كعبد الله بن أبي سلول. ثم أسلم أقوام كثر بعد الهجرة لما وجدوه أنه قد صار للمسلمين دولة ترعاهم. و لما دارت تلك المعارك الطاحنة بين الكفار و المسلمين كبدر و أحد و الخندق، كانت الكثير من القبائل تترقب و تنتظر من هو الغالب. فلما انتصر الإسلام و فتحت مكة في السنة الثامنة للهجرة، جاء العرب يدخلون في دين الله أفواجاً. و بذلك دخل كثير من الناس في الإسلام منجرفين مع التيار. و هؤلاء أغلبهم من المؤلفة قلوبهم ممن كان إسلامهم ضعيفاً و العصبية الجاهلية ما تزال متمكنة من نفوسهم، فكان هؤلاء عامة المرتدين فيما بعد.

حروب الردة

بعد وفاة الرسول r ارتدت معظم قبائل العرب رغم اقتناع معظم المرتدين بأن الإسلام دين حق و ذلك تعصباً لقبائلهم.

فقد روى الطبري في تاريخه[17] أن طلحة النميري قال لمسيلمة: «أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق. ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر» فقتل معه يوم عقرباء. أي أنهم عرفو أن الإسلام حق، و لكن لم يرضو أن يقفو مع قريش ضد رجل من قبيلتهم و لو كان على باطل. ولذلك قال عنهم الطبري بعد سرد عدة حوادث في هذا المعنى: «وكانوا قد علموا واستبان لهم (كذب مسيلمة)، ولكن الشقاء غلب عليهم».

وترجع عوامل الردة في المناطق الأخرى، إلى عدم تغلغل الإيمان في القلوب لتأخر إسلامهم و بسبب قصر الزمن الذي تم فيه تبليغ الدعوة، و طبيعة الأعراب المتسمة بالجفاء مع ضعف المستوى الثقافي، مما جر إلى ضعف فقه تعاليم الدين وخاصة بالنسبة للزكاة التي اعتبرها البعض ضريبة مهينة، و استثقلو الصلاة و العبادات الأخرى. كما أن العصبية القبلية لا زالت عميقة في تلك البلاد النائية و وسط نجد، حيث ترى القبائل أنها أضخم عدداً و عدة من قريش وبالتالي فهي أولى بالزعامة. وعلى الأقل لم تكن ترضى بالخضوع لحكم قريش. فمعظم المرتدين كانو من ربيعة ذات العداء التقليدي لمضر التي منها قريش و عامة الصحابة.

فهذه العصبية القبلية التي بقيت نتيجة ضعف الإيمان و حداثة الإسلام، قد استغلها قادة المرتدين خير استغلال علماً بأن أكثرهم لم يكن قد أسلم أصلاً. فقد خرج الأسود العنسي، على الرسول r بعد حجة الوداع في العام العاشر الهجري، كما جاء في الصحيح[18]، و لم يُعرف أنه كان مسلماً حتى يقال إنه ارتد عن الإسلام. و كذلك مسيلمة الكذاب، الذي قال: «إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته»[19]. و كذلك سجاح التميمية، كانت نصرانية و لم تدخل الإسلام أصلاً[20].

و قد اعتمدت الدولة الإسلامية على سند قوي من القبائل و الأفراد الذين ثبتوا على الإسلام، في قمع الردة. فقد اعتمدت على أهل المدينة ومكة والطائف و ما حولها من قبائل، و من ثبت في قبيلته في مراكز الردة، في تجهيز الجيوش للقضاء على المرتدين. و ما يردده بعض المستشرقون من أن جميع العرب ارتدت إلا المدينة و مكة و الطائف، فهذا فيه مبالغة كبيرة. إذ ثبت الكثير من قبائل العرب لكنهم بشكل عام كانو مبعثرين في الأرض و كثير منهم كان يخفي إسلامه خوفاً من اضطهاد قومه[21]. فلما جاءت طلائع الجيوش الإسلامية انضمو إليها.

و يغفل الكثير من المؤرخين دور الفرس في دعم المرتدين. و لولا تدخل بعض العناصر الأجنبية لصالح المرتدين لما تجرءوا على الوقوف في وجه المسلمين مدة طويلة، حيث أن فارس قد أمدت المرتدين في أرض تميم في البحرين بتسعة آلاف من المقاتلين، و كان عدد المرتدين ثلاثة آلاف و عدد المسلمين أربعة آلاف[22].

و نفهم مما روى البخاري من حديث أبو بكر الصديق t عن المرتدين: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ r، وَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ t، وَ كَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ. فَقَالَ عُمَرُ t: «كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»؟ فَقَالَ «وَ اللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ. وَ اللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُو يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا». قَالَ عُمَرُ t: «فَوَ اللَّهِ مَا هُوَ إِلاَ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ t فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ»[23]. أن قتاله لهم كان لإجبارهم على دفع الزكاة و بالتالي الخضوع للدولة الإسلامية و ليس لإكراههم على الدخول في الإسلام. و الآيات في ذلك المعنى كثير منها:

]ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء...[[24]. ]فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعني و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما عليك البلاغ و الله بصير بالعباد[ (آل عمران:20). ]ما على الرسول إلا البلاغ و الله يعلم ما تبدون و ما تكتمون[ (المائدة:99). ]و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين[ (يونس:99). ]قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها و ما أنا عليكم بوكيل[ (يونس:108). ]و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر... [( الكهف:29). ]إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[ (القصص:56). ]نحن أعلم بما يقولون و ما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد[[25].

و الدليل على ذلك ما ورد من قصة بزاخة إذ عقد مع المرتدين عقد سلام مهين للمرتدين: فقد جاء وفد بزاخة و غطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية و السلم المخزية فقالو: هذه المجلية عرفناها فما المخزية؟ قال: «تنزع منكم الحلقة و الكراع و نغنم ما أصبنا منكم و تردون علينا ما أصبتم منا و تُدَوَّنُ قتلانا و تكون قتلاكم في النار و تُترَكون أقواماً يتبعون أذناب الإبل حتى يُرِيَ اللهُ خليفة رسوله و المهاجرين و الأنصار أمراً يعذرونكم به». فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال: «قد رأيت رأياً و سنشير عليك. أما ما ذكرت من الحرب المجلية و السلم المخزية فنعم ما ذكرت، و أما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم و تدون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، و أما ما ذكرت تدون قتلانا و تكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقُتِلَتْ على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات». فتبايع القوم على ما قال عمر[26].

و الدليل الآخر أنه أخذ منهم أسرى و لو أراد أن يخيرهم بين الإسلام و السيف إذاً لقتل الأسرى جميعاً و لكنه عمل حسب فهمه للآية ]فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِدَاءً حتى تضع الحرب أوزارها ذلك و لو يشاء الله لانتصر منهم و لكن ليبلو بعضكم ببعض و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم[ (محمد:4) (و هي آية ناسخة لآية السيف عند بعض من قال بالنسخ)، و فهمه للحديث الشريف: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَ بِإِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ يُرْجَمُ، أَوْ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، أَوْ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ يُحَارِبُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ» (النسائي)

فالمرتد الذي يحارب الإسلام يُقْتَلُ أو يُصْلَبُ أو يُنْفى من الأرض (أو يسجن) و ليس القتل بالضرورة هو العقوبة إذ الحكمة أن نوقف هذا المرتد عن إيذاء الإسلام.

فانتصار الجيش الإسلامي على المرتدين أثبت تفوق العصبية الإسلامية على العصبية القبلية و أدى هذا الانتصار إلى تحطيم العصبية القبلية نهائياً و صهر الانتماء القبلي ببوتقة الدولة الإسلامية الواحدة. فعاد العرب إلى الإسلام كلهم و توحدت كلمتهم و دخل الإيمان في قلوبهم.

و لا بد من الإشارة إلى أن الصديق t لم يشرك أحداً من المرتدين في الفتوح، بل جردهم من السلاح، لأنه لم يأمنهم لحداثة عهدهم بالردة، و عقوبة لهم بإظهار الاستغناء عنهم. و لأن الصديق t لم يشأ للمرتدين أن يكونو طلائع الفتح الإسلامي، فلا يعطون سكان المناطق المفتوحة المثل السيئ للجندي المسلم. حتى جاء عمر t في خلافته فأذن لمن أثبت حسن إسلامه منهم بالمشاركة في الفتوحات. و لعل أشهر هؤلاء هو هو طليحة بن خويلد، بعد أن عاد إلى الإسلام و حسن إسلامه، شارك بنفسه في فتوحات العراق في خلافة الفاروق، و أبلى بلاءً حسناً في الحرب مع الروم.

الفرس تحت الحكم الإسلامي

بعد توحيد العرب بدأت الفتوح مباشرة و انهارت مباشرة دولة الفرس التي كانت في الجيل الثالث و سقطت بأكملها بأيدي العرب و اجتاحت جيوشهم معظم دولة الروم.

كان الفرس يعيشون في ترف و بذخ الجيل الثالث عندما أتى الفتح الإسلامي. و لذلك لم يدخل الإيمان في قلوب كثير منهم، و ظلوا حاقدين على الدولة الإسلامية يحاولون تخريبها من الداخل. فبعد مقتل الخليفة القوي عمر t على يد أبي لؤلؤة الفارسي (الذي يسميه الشيعة المعاصرون بابا شجاع الدين)، كان للفرس أثرهم الكبير في فتنة عثمان و ما تلاها من فتن كما سنرى.

هذا الحقد على العرب الفاتحين استمر عند الفرس حتى اليوم الحالي. يقول المفكر الإيراني المعاصر الإحقاقي: «إن الصدمات التي واجهها كل من شعبي إيران و الروم الكبيرين نتيجة لحملات المسلمين، و المعاملة التي تلقوها من الأعراب البدائيين الذين لا علم لهم بروح الإسلام العظيمة، أورثت في نفوسهم نزعة صدود عن العرب، و شريعة العرب، فطبيعة سكان البادية الأوباش الخشنة، و ذلك الخراب و الدمار اللذين ألحقوهما بالمدن الجميلة، و الأراضي العامرة، في الشرق و الغرب، و غارات عباد الشهوات العطاشى إلى عفة[27] و ناموس الدولتين الملكية و الإمبراطورية…الخ»[28].

و هذا هو السبب الرئيسي لبغض الشيعة لعمر، و هو تحطيمه دولة فارس. ففي مدينة كاشان الفارسية في شارع الفيروزي هناك مزار مقام في ميدان فيروزي، هو مزار لقبر المجوسي أبو لؤلؤة قاتل سيدنا عمر t[29]. و يسمون هذا المجوسي بـ (بابا شجاع الدين) و يقيمون التعزيات و اللطميات بذكرى موته، و يزعمون أن الله يرفع عنهم الحساب في ذلك اليوم[30]! و يدلّنا تسميته ببابا شجاع الدين على أمرين: الأول أن هذا المجوسي الفارسي هو الأب الروحي للإثني عشرية. الأمر الثاني أن تلقيبه بشجاع الدين يعني أن الديانة المجوسية هي الديانة الحقيقية لهم. و ما المسألة إلا اختلاف أسماء!

و نجد السبب نفسه في تعظيمهم لأولاد الحسين دون أولاد الحسن، لأن أولاد الحسين أخوالهم الفرس من زوجته شهربانو بنت يزدجرد[31]. و قد ذكر محمد علي أمير معزي الباحث الشيعي الإيراني بفخر «أن المفاهيم الأساسية من الزرادشتية دخلت إلى التشيع حتى في بعض الجزئيات الصغيرة (!). و أصبح زواج سيدنا حسين ببنت آخر ملوك آل ساسان رمزا لإيران القديمة، بحيث أصبحت تلك الفتاة هي الأم الأولى لجميع أئمتهم. و قد انعقد بها عقد الاخوة بين التشيع و إيران القديمة المجوسية». و كذا تعظيمهم لسلمان الفارسي من دون الصحابة حتى قالوا أنه يوحَى إليه لا لشي إلا أنه فارسي[32]. و لهذا يروون في كتبهم عن علي بن أبي طالب t أنه قال عن كسرى: «إن الله خلصه من عذاب النار، و النار محرمة عليه»[33].

قال لله تعالى عن الذين يرفضون أن يأتي رسول الهدى من بين العرب و يحسدون آل إبراهيم على ما أتاهم الله: ]أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا {53} أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا {54} فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا {55} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا {56}[ (سورة النساء).

فتح الشام و مصر

كان الروم يستعبدون سكان الشام و مصر و شمال إفريقيا و هؤلاء السكان كانوا ينتقلون من الجيل الرابع إلى الجيل الأول، و يتطلعون للخلاص من حكامهم الروم. و من المشهور في التاريخ ما كان من الاستقبال الحافل الذي استقبل به أهلُ الشام عمرَ و ما كان من أن سموه "الفاروق" و تعني بالسريانية "المنقذ". و قد قدم سكان تلك المناطق المساعدات الكثيرة للجيوش الإسلامية الفاتحة. و فتح أهل حمص أبواب مدينتهم لخالد بن الوليد t بلا قتال. و قدم الأقباط لجيش عَمْرِ بن العاص t خدمات جليلة ليعينهم على طرد الروم من مصر. لذلك وجد الإسلام بيئة خصبة في تلك المناطق خاصة بالشام حيث بلغت العصبية الإسلامية تحت حكم بني أمية ذروتها.

 



[1]  (الأنفال: 63).

 [2] أي جعلها وسادة له.

 [3] أي لم لا تطلب النصرة لنا من الله تعالى؟

[4]  وهو الإسلام.

[5]  أي تستعجلون النتائج والثمرات.

[6]  صحيح البخاري (3\1322).

 [7] في ظلال القرآن: (2/713–715).

 [8] رواه النسائي: (6/3).

 [9] أخرجه أحمد (3/460–462)، و الطيالسي (2/93). و سنده صحيح [عن زاد المعاد (3/48)].

 [10] الاتقان للسيوطي: 3/66 (849 - 911).

 [11] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (745–794 هـ)، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه: (2/42).

 [12] مناهل العرفان في علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، دار الكتاب العربي: (2/197).

 [13] تفسير المنار، رشيد رضا: (10/166).

 [14] في ظلال القرآن، ص: 1580.

 [15] في ظلال القرآن، ص: 1582، و فقه الدعوة اختيار أحمد حسن: (ص 217–222)، و أهمية الجهاد.

 [16] مجموع الفتاوى (13/29).

 [17] تاريخ الطبري (2\277).

 [18] انظر: البخاري مع الفتح (7/693).

 [19] البخاري مع الفتح (7/690).

 [20] انظر: البداية و النهاية (6/320).

 [21] و لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع كتاب: الثابتون على الإسلام أيام فتنة الردة، د. مهدي رزق الله أحمد، حيث أن المؤلف جمع الروايات الصحيحة في هذا الموضوع و ناقشها وفق المنهج العلمي. و كتاب: ترتيب و تهذيب كتاب البداية و النهاية خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، د. محمد بن صامل السلمي (ص78-124) حيث درس المؤلف موضوع الدرة دراسة جيدة، و خرج أحاديثه و آثاره. و كتاب: عصر الخلافة الراشدة د. أكرم ضياء العمر (ص 387-412).

[22]  الكامل (2/41) و فتوح ابن أعثم (1/38).

[23]  البخاري مع الفتح (3/308).

[24]  (البقرة:272).

[25]  (ق:45).

[26]  رواه البرقاني عن طارق بن شهاب على شرط البخاري، و ذكره الشوكاني في نيل الأوطار.

[27]  لا أدري أي عفة للفرس يبكي عليها و هم يبيحون نكاح المحارم.

[28]  انظر رسالة الإيمان ص 323 - ميرزا حسن الحائري الإحقاقي - مكتبة الصادق - الكويت ط2 1412.

[29]  هو ليس قبره الحقيقي إنما هو مزار يشبه ما يسمى بنَصب الجندي المجهول.

[30]  روى علي بن مظاهر –من رجالهم– عن أحمد بن إسحاق القمي الأحوص (شيخ الشيعة و وافدهم) أن يوم قتل عمر بن الخطاب هو يوم العيد الأكبر و يوم المفاخرة و يوم التبجيل و يوم الزكاة العظمى و يوم البركة و يوم التسلية!

[31]  انظر بحار الأنوار (45\329) - للمجلسي - مؤسسة الوفاء - بيروت ط2 – 1403.

[32]  انظر رجال الكشي (21).

[33]  انظر بحار الأنوار (14/41).