الأبعاد السياسية لفاجعة كربلاء

تمثل فاجعة كربلاء نقطة تحول خطيرة في تاريخ المسلمين. و قد جرَّت هذه الحادثة من التبعات والانقسامات الشيء الكثير. و كان خطر هذه الحادثة لا يقتصر على تأثيرها المباشر على المجتمع المسلم في ذلك الوقت فقط، بل يتعداه إلى أبعد من ذلك حتى يومنا هذا، حيث يمثل نقطة خطيرة لانحراف طائفة الشيعة التي تدعي محبته و موالاته فقط، و تكفِّر الأمَّة الإسلامية بسببه، و من ثمَّ تتخذ من هذه الحادثة مادَّةً لتأجيج المشاعر ضدَّ أهل السنة بأجمعهم، و كأنهم هم السبب الحقيقي لمأساته رضوان الله عليه.

لم يكن ليزيد يدٌ في قتل الحسين، و لا نقول هذا دفاعاً عن يزيد و لكن دفاعاً عن الحق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل، و لكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق، و لما بلغ يزيد قتل الحسين أظهر التوجع على ذلك، و ظهر البكاء في داره، و لم يسبِ لهم حريماً بل أكرم بيته و أجازهم حتى ردهم إلى بلادهم. و أما الروايات التي تقول أنه أُهِين نساء آل بيت رسول لله، و أنَّهنَّ أُخِذنَ إلى الشام مسبياتٍ و أُهِنّ هناك، هذا كلام باطل. بل كان بنو أمية يعظمون بني هاشم، و لذلك لمَّا تزوَّج الحجَّاج بن يوسف من فاطمة بنت عبد الله بن جعفر، لم يقبل عبد الملك بن مروان هذا الأمر، و أمرَ الحجَّاج أن يعتزلها، و أن يطلِّقها. فهم كانو يعظمون بني هاشم. و لم تسْـبَ هاشمية قط». و قال أيضاً: «الذي نقله غير واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين، و لا كان له غرض في ذلك. بل كان يختار أن يكرمه و يعظِّمه كما أمره بذلك معاوية رضي الله عنه. و لكن كان يختار أن يمتنع من الولاية و الخروج عليه. فلمَّا قدِم الحسين و عَلِمَ أنَّ أهل العراق يخذلونه و يسلِّمونه، طلب أن يرجع إلى يزيد أو يرجع إلى وطنه أو يذهب إلى الثغر. فمنعوه من ذلك حتى يستأسر. فقاتلوه حتى قتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه. و أنَّ خبرَ قتلهِ لمَّا بلغ يزيد و أهله ساءهم ذلك و بكو على قتله. و قال يزيد: "لعن الله ابن مرجانة –يعني عبيد الله بن زياد–، أما و الله لو كان بينه و بين الحسين رحِم لما قتله". و قال: "قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين". و أنَّه جهَّز أهله بأحسن الجهاز، و أرسلهم إلى المدينة. لكنَّه مع ذلك ما انتصر للحسين و لا أمر بقتل قاتله و لا أخذ بثأره. و أمَّا ما ذكره من سبي نسائه و الذراري، و الدوران بهم في البلاد، و حملهم على الجِّمال بغير أقتاب، فهذا كذِبٌ و باطلٌ. ما سبى المسلمون –و للهِ الحمدُ– هاشميةً قط. و لا استحلت أمَّةُ محمَّد r سبيَ بني هاشم قط. و لكنَّ أهل الهوى و الجهلِ يكذبونَ كثيراً»[1].

بل ابن زياد نفسه عندما جيء بنساء الحسين إليه و أهله، و كان أحسن شيء صنعه أن أمر لهنَّ بمنزلٍ من مكانٍ معتزلٍ، و أجرى عليهنَّ رزقاً و أمر لهنَّ بنفقةٍ و كِسوة[2]. و قال عزّت دروزة المؤرخ «ليس هناك ما يبرر نسبة قتل الحسين إلى يزيد. فهو لم يأمر بقتاله، فضلاً عن قتله. و كلّ ما أمر به أن يحاط به و لا يقاتل إلا إذا قاتل». و قال الحافظ ابن كثير: «و الذي يكاد يغلب على الظن أنّ يزيد لو قدِرَ عليه قبل أن يُقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، و كما صرَّح هو به مخبراً عن نفسه بذلك».

أما سبب عدم أخذ يزيد بثأر الحسين t و عدم قتله لقتلته و إبقائهم على أعمالهم رغم لعنه لهم، فهو نفس السبب الذي دعى علياً t لعدم الأخذ بثأر عثمان t و عدم قتله لقتلته بل ولاَّهم قيادة جيشه رغم لعنه لهم! و هذا السبب هو عدم قدرته على ذلك لحاجته الماسة لهم. فلو أنه قتلهم لثارت عشائرهم عليه و لم يبق بالعراق له من نصير، فتكون الفتنة من جديد و يقتل من المسلمين أضعاف أضعاف عدد القتلة.

و لكنَّ بنو أميَّة ما أعجبهم فعل يزيد و إبقائه لابن زياد، إذ يعتبرون أنا ما حدث من بعده من فتن كادت تطيح بهم هو عقوبة من الله لهم. و لذلك شدّد عبد الملك على الحجّاج أن لا يتعرض بشيء لبني هاشم. قال إبن تيمية: «الحَجّاج لم يقتل من بني هاشم أحداً قط، مع كثرة قتله لغيرهم. فإن عبد الملك أرسل إليه يقول له: إياك و بني هاشم أن تتعرض لهم، فقد رأيت بني حربٍ لمّا تعرضو للحسين أصابهم ما أصابهم»[3].

أمّا بدعة اللطم في عاشوراء فهي بدعةٌ محرَّمةٌ و كذلك الفرح فيه. قال شيخ الإسلام: «كانت الكوفة بها قومٌ من الشيعة المنتصرين للحسين. و كان رأسهم المختار بن أبي عبيد الكذاب. و قومٌ من النَّاصبة المبغضين لعلي t و أولاده، و منهم الحجّاج بن يوسف الثَّقفي. و قد ثبتَ في الصحيح عن النبي r أنَّه قال: "سيكون في ثقيف كذَّاب و مبير". فكان ذلك الشيعي هو الكذاب، وهذا النَّاصِبي هو المُبير. فأحدث أولئك الحزن، و أحدث هؤلاء السُّرور»[4].

و قد اتفق السنة و الشيعة على أن رسول الله r قال: « النِّيَاحَةُ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّة[5]ِ. وَ إِنَّ النَّائِحَةَ إِذَا مَاتَتْ وَ لَمْ تَتُبْ، قَطَعَ اللَّهُ لَهَا ثِيَابًا مِنْ قَطِرَانٍ وَ دِرْعًا مِنْ لَهَبِ النَّارِ»[6]. و ثبت عند الطرفين استحباب صوم عاشوراء[7]. و ما لا أكاد أفهمه تجاهل علماء الشيعة للروايات الواضحة في بيان فضل صيام عاشوراء، بل و بالمقابل اتهام أهل السنة مراراً و تكراراً بأنهم استحدثو صيام هذا اليوم احتفالاً بمقتل الحسين –عياذاً بالله من ذلك– مع اتفاق أحاديث السنة والشيعة على فضل صيام هذا اليوم و أنّ نبينا محمد r صامه! بل قل لي بربِّك: ألذي يصوم يوم عاشوراء و يحييه بالذكر و القرآن و العبادة في نظرك يحتفل و يفرح بمقتل الحسين، أم من يحييه بلعن الصحابة و يوزع اللحم و الطعام و الشراب على الناس في هذا اليوم و يحيي الليل بإنشاد القصائد؟!! أليس هذا تناقضاً في حد ذاته؟ ألا ترى في اتهام أهل السنة بالفرح بموت الحسين و الادعاء بأنّ صيامهم ليوم عاشوراء نكاية بالحسين و بأهل البيت ليس إلا دعاية مذهبية للتنفير منهم و من مذهبهم و إبرازهم كعدو لأهل البيت دون وجه حق؟

و أنا لم أتوسَّع في بحث موضوع كربلاء و الحرَّة إلا بسبب استغلال تلك القضايا سياسيّاً. فنجد مجازر الشيعة ضد السنة عبر التاريخ قد تم تبريرها بأن أهل السنة هم قتلة الحسين. و سيمر معنا بإذن الله قصة هولاغو و تيمورلنك. و في لبنان قام أتباع موسى الصدر في حركة أمل بقتل أهل السنة من الفلسطينيين في لبنان بالتعاون مع ما يسمى بحزب الله. و رفع الحزب رسمياً شعار «إقتل سنياً تدخل الجنة». و يقول "داود الداود" أحد قادة أمل: «إن ما قمنا فيه من ذبح الفلسطينيين ما ذاك إلا انتقاماً للحسين». فمن أجل الحسين ذبحو المسلمين في شهر رمضان. و من أجل مقتل الحسين أجهزو على الجرحى، و دمرو البيوت على من فيها، و منعو العلاج من الأطفال حتى مات أكثرهم بالكوليرا. و تعفّنت الجثث حتى لم يجد من يدفنها إلا بعد ثلاثة أيام في قبور جماعية. اقتقصُّو و تتبعو هويَّات الجرحى في المستشفيات فأجهزو عليهم. كلّ ذلك قربى للحسين، و الحسين t بريء منهم، و أهل البيت بريئون منهم[8]. و الأمثلة على استغلال كربلاء للبطش بأهل السنة كثيرة جداً. و لذلك نجد الإصرار على تلك الطقوس الدموية في عاشوراء، مع سفك الدماء و لعن الصحابة و الضرب و التعذيب.

و هنا يطرح السؤال المهم: من قتل الحسين؟ أهُم أهل السنة و الجماعة كما يدعي الشيعة؟

إن الحقيقة المفاجئة أننا نجد العديد من كتب الشيعة تقرر و تؤكد أن شيعة الحسين هم الذين قتلو الحسين. فقد قال السيد محسن الأمين «بايع الحسين عشرون ألفاً من أهل العراق، غدرو به و خرجو عليه، و بيعته في أعناقهم، و قتلوه»[9]. و كانو تعساً، الحسين يناديهم قبل أن يقتلوه: «ألم تكتبو إليَّ أن قد أينعت الثِّمار، و أنّما تقدم على جند مجندة؟ تبَّاً لكم أيتها الجماعة و ترحاً و بؤساً لكم حين استصرختمونا والِهِين. فأصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفاً كان بأيدينا، و حمشتم ناراً أضرمناها على عدوِّكم و عدوِّنا، فأصبحتم ألباً أوليائكم، و يداً على أعدائكم من غير عدلٍ أفشوه فيكم، و لا أملٍ أصبح لكم فيهم، و لا ذنبٍ كان منَّا إليكم. فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم، والجأش طامـن... استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الذباب، و تهافتم إلينا كتهافت الفراش ثم نقضتموها سفهاً. بعداً لطواغيت هذه الأمة!»[10].

ثم ناداهم الحرّ بن يزيد، أحد أصحاب الحسين و هو واقف في كربلاء فقال لهم «أدعوتم هذا العبد الصالح، حتى إذا جاءكم أسلمتموه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه فصار كالأسير في أيديكم؟! لا سقاكم الله يوم الظمأ»[11]. و هنا دعا الحسين على شيعته قائلاً: «اللهم إن متّعتهم إلى حينٍ ففرِّقهم فرقا[12]ً و اجعلهم طرائق قِدداً، و لا ترضِ الولاة عنهم أبداً. فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدو علينا فقتلونا»[13].

و قالت زينب بنت علي t للشيعة: «يا أهل الكوفة. يا أهل الختر و الخذل. فلا رفأت القُبرة، و لا هدأت الرقة. إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا هل فيكم إلا الصَّلف و الشنف و خلق الدماء و غمز الأعداء؟ و هل أنتم إلا كمرعى على دمنه، أو كفضة على ملحودة؟ ألا ساء ما قدَّمت أنفسكم، أن سخِط الله عليكم و في العذاب أنتم خالدون. أتبكون؟ أي و الله فبكو. إنكم و الله أحرياء بالبكاء، فابكو كثيراً و اضحكو قليلاً فقد فزتم بمعارها و شنارها، و لن ترحضوها بغسل بعدها أبداً». و لمَّا دخل علي بن الحسين الكوفة رأى نساءها يبكين و يصرخن فقال: «هؤلاء يبكين علينا فمن قتلنا؟» أي من قتلنا غيرهم؟![14]. و لمَّا تنازل الحسن لمعاوية و صالحه، نادى شيعة الحسين الذين قتلو الحسين و غدرو به قائلاً: «يا أهل الكوفة: ذهلت نفسي عنكم لثلاث: مقتلكم لأبي، و سلبكم ثقلي، و طعنكم في بطني. و إنِّي قد بايعت معاوية فاسمعو و أطيعو». فطعنه رجُلٌ من بني أسد في فخذه فشقَّه حتى بلغ العظم[15].

فهذه كتب الشيعة بأرقام صفحاتها تبيِّن بجلاءٍ أن الذين زعمو تشييع الحسين و نصرته هم أنفسهم الذين قتلوه ثم ذرفو عليه الدموع، و تظاهرو بالبكاء، و لا يزالون يمشون في جنازة من قتلوه إلى يومنا هذا. و لو كان هذا البكاء يعكس شدة المحبة لأهل البيت فلماذا لا يبكون البكاء من باب أولى على حمزة عم النبي r، فإنَّ الفظاعة التي قتل بها لا تقل عن الطريقة التي ارتكبت في حقِّ الحسين t حيث بٌقِر بطن حمزة و استؤصلت كبده. فلماذا لا يقيمون لموته مأتماً سنوياً يلطمون فيه وجوههم و يمزقون ثيابهم، و يضربون أنفسهم بالسيوف و الخناجر؟ أليس هذا من أهل بيت النبي r؟ بل لماذا لا يبكون هذا البكاء على موت النبي r؟ فإنَّ المصيبة بموته تفوق كلّ شيء؟ أم أنَّ الحسين أفضل من جده لأنَّه تزوج ابنة كسرى الفارسية بزعمهم؟

أما عن قول الشيعة المعاصرين في تكفير معاوية و أهل الشام (بل وأهل السنة) مع قولهم بعصمة الأئمة فنقول لهم: لقد تنازل الحسن بن علي لمعاوية و سالمه، في وقتٍ كان يجتمع عنده من الأنصار و الجيوش ما يمكـِّنَه من مواصلة القتال. و خرَج الحسين بن علي في قِلّةٍ من أصحابه في وقتٍ كان يمكنه فيه الموادعة و المُسالمة. و لا يخلُ أن يكون أحدهما على حقٍ و الآخر على باطل. لأنه إن كان تنازل الحسن مع تمكّنه من الحربِ (حقاً)، كان خروج الحسين مجرداً من القوة مع تمكنه من المسالمة (باطلاً). و إن كان خروج الحسين مع ضعفِهِ (حقاً)، كان تنازل الحسن مع قوَّته (باطلاً). و هذا يضعهم في موقف لا يحسدون عليه. لأنَّهم إن قالو أنَّهما جميعاً على حق، جمعو بين النقيضين و هذا القول يهدم أصولهم.

وإن قالو ببطلان فعل الحسن لزمهم أن يقولو ببطلان إمامته. و بطلان إمامته يبطل إمامة أبيه و عِصْمته لأنه أوصى إليه، و الإمام المعصوم لا يوصي إلا إلى إمام معصوم مثله. و إن قالو ببطلان فعل الحسين لزمهم أن يقولو ببطلان إمامته و عصمته. و بطلان إمامته و عصمته يبطل إمامة و عصمة جميع أبنائه و ذريته، لأنه أصل إمامتهم و عن طريقه تسلسلت الإمامة. و إذا بطل الأصل بطل ما يتفرع عنه. و الحمد لله ربِّ العالمين.

 



[1]  منهاج السنة (4\557).

[2]  رواه ابن جرير بسند حسن.

[3]  منهاج السنة (4\558).

[4]  منهاج السنة (4/554).

[5]  رواه من الشيعة ابن بابويه القمي في كتاب "من لا يحضره الفقيه" (39)، و المجلسي في بحار الأنوار (82/103).

[6]  أخرجه إبن ماجة برقم 1570. إسناده صحيح و رجاله ثقات. و أخرج مسلم في صحيحه برقم 100: «‏اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ».

[7]  و مما ورد من روايات في فضل صيام هذا اليوم من روايات الشيعة، ما رواه الطوسي في الاستبصار (2/134) و الحر العاملي في وسائل الشيعة (7/337) عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه أنّ علياً عليهما السلام قال: «صومو العاشوراء، التاسع و العاشر، فإنّه يكفّر الذنوب سنة». و عن أبي الحسن (ع)  قال: «صام رسول الله r يوم عاشوراء». و عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «صيام عاشوراء كفّارة سنة».

[8]  راجع كتاب حركة أمل والمخيمات الفلسطينية للدكتور عبد الله غريب.

[9]  أعيان الشيعة (1\34).

[10]  الاحتجاج للطبرسي (2\300).

[11]  الإرشاد للمفيد 234، إعلام الورى بأعلام الهدى 242.

[12]  أي شيعاً و أحزاباً.

[13]  الإرشاد للمفيد 241، إعلام الورى للطبرسي 949، كشف الغمة 18:2و38.

[14]  تاريخ اليعقوبي (1\235).

[15]  كشف الغمة 540، الإرشاد للمفيد 190، الفصول المهمة 162، مروج الذهب للمسعودي (1\431).