حكم معاوية و ابتداء عهد الجيل الثاني

إن أوّل من ولّى معاوية على دمشق ثمّ على الشام هو عمر بن الخطاب في أول خلافته. و كان عمر من أعظم الناس فراسة و أخبرهم بالرجال و أقومهم بالحق و أعلمهم به، حتى قال النبي r: «إن الله ضرب الحق على لسان عمر و قلبه»[1]، و قال: «لو لم أُبعث فيكم، لبعث فيكم عمر». و لذلك قال الذهبي عن معاوية: «حسبـُكَ بمن يؤمِّره عمر ثم عثمان على إقليمٍ و هو ثغرٌ، فيضبطه و يقوم به أتمَّ قيام، و يرضي الناس بسخائه و حلمه»[2].

فعندما ولِّيَ معاوية الشام من قبل عمر بن الخطاب، كانت سياسته مع رعيته من أفضل السياسات و كانت رعيته تحبه و يحبُّهم. «قال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحداً أعظم حلماً و لا أكثر سؤدداً و لا أبعد أناة و لا ألين مخرجاً، و لا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية. و قال بعضهم: أسْمَعَ رجلٌ معاوية كلاماً سيئاً شديداً، فقيل له لو سطوت عليه؟ فقال: إني لأستحي من الله أن يضيقَ حلمي عن ذنب أحد رعيتي. و في رواية قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟ فقال: إني لأستحي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي»[3]. و قال أحمد: «كان معاوية كريماً حليماً». لذلك استجابو له عندما أراد المطالبة بدم عثمان و بايعوه على ذلك و وثقو له أن يبذلو في ذلك أنفسهم و أموالهم، أو يدركو بثأره أو ينفي الله أرواحهم قبل ذلك[4]. و لو كان ظالماً كما يصور الشيعة، لما استمات أهل الشام في الدفاع عنه.

و الذين لا يعرفون سيرة معاوية يستغربون إذا قلت لهم بأنه كان من الزاهدين و الصفوة الصالحين. روى الإمام أحمد بسنده إلى علي بن أبي حملة عن أبيه قال: «رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس و عليه ثوب مرقوع»[5]. و أخرج ابن كثير عن يونس بن ميسر الزاهد –و هو أحد شيوخ الإمام الأوزاعي– قال: «رأيت معاوية في سوق دمشق و هو مردف وراءه وصيفاً و عليه قميص مرقوع الجيب و يسير في أسواق دمشق»[6]. ومن تواضعه رضي الله عنه عن أبي مجلز قال: خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: «اجلس فإني سمعت الرسول صلى r يقول: "من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار"»[7].

و قد أوردت هذه الأمثلة ليعلم الناس أن الصورة الحقيقية لمعاوية تخالف الصورة المكذوبة التي كان أعداؤه و أعداء الإسلام يصورونه بها. فمن شاء بعد هذا أن يسمي معاوية خليفة، أو أمير المؤمنين، فإن سليمان بن مهران الأعمش –و هو من الأئمة الأعلام الحفاظ كان يسمى بالمصحف لصدقه– كان يفضّل معاوية على عمر بن عبد العزيز حتى في عدله[8]. و ذلك أنه قال للذين ذكرو عنده عمر بن عبد العزيز و عدله: «كيف لو ادركتم معاوية؟». قالو: «في حُلمه؟». قال: «لا و الله بل في عدله». فهذه شهادة أحد الأئمة ممّن عاصر كلا الخليفتين العادِلين.

و لمّا تولّى الحكم أعاد الفتوحات إلى عهدها السابق بعد أن توقّفت طوال خلافة علي. فأرسل عقبة بن نافع على جيش من مصر، ففتح شمال إفريقيا حتى وصل للمحيط الأطلسي (بحر الظلمات كما يسمونه). و فتح النوبة في شمال السودان. و أرسل جيشاً عَرَمْرَمَاً لقتال الروم، فحاصر عاصمتهم القسْطنطِينية للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي كما سيمرُّ معنا.

قال ابن كثير ملخصاً حالت العالم الإسلامي في عهده رضي الله تعالى عنه: «الجهاد في بلاد العدو قائم، و كلمة الله عالية و الغنائم ترد إليه من أطراف الأرض و المسلمون معه في راحة و عدل و صفح و عفو». و قال أيضاً: «و كان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف و مرة في الشتاء، و يأمر رجلاً من قومه فيحج بالناس. و حج هو سنة خمسين. و حج ابنه يزيد سنة احدى و خمسين. وفيها أو في التي بعدها أغزاه بلاد الروم فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينة، و قد ثبت في الصحيح "أول جيش يغزو القسطنطينة مغفور لهم"». و قال سعيد بن عبد العزيز: «لما قتل عثمان و اختلف الناس، لم يكن للناس غازية و لا صائقة (الغزو في الصيف) حتى اجتمعت الأمة على معاوية سنة أربعين، و سموها سنة الجماعة».

و كان معاوية t يُعَدُّ من فقهاء الصحابة أيضاً. و لذلك وصفه حِبرُ الأمة إبن العباس t بالفقيه لمّا أوتر بالناس بركعة واحدة كما في الصحيح. و قال الصحابي الجليل أبي الدرداء t لأهل الشام: «ما رأيت أحداً أشبه بصلاة رسول الله r من إمامكم هذا»[9] يعني معاوية. وقد بلغ من استقامته على جادة الإسلام أن قال فيه أمثال قتادة و مُجاهد و أبي إسحاق السبيعي –و كلّهم من الأئمة الأعلام من التابعين–: «كان معاوية هو المهدي»[10].

و قد سُئل الإمام عبد الله بن المبارك[11]، أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان، أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: «و الله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله r أفضل من عمر بألف مرة. صلَّى معاوية خلف رسول الله r، فقال: سمع الله لمن حمده. فقال معاوية: ربّنا و لك الحمد. فما بعد هذا؟»[12]. و أخرج الآجري بسنده إلى الجراح الموصلي قال: سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران، فقال: يا أبا مسعود؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟! فرأيته غضب غضباً شديداً و قال: «لا يقاسُ بأصحاب محمد r أحد. معاوية t كاتبه و صاحبه و صهره و أمينه على وحيه عزّ و جلّ»[13].

و الحق يقال أنه من تأمل سير ملوك المسلمين، فلن يجد بينهم أعدل من معاوية و لا أعلم منه بسياسة الحكم. حتى أن الإمام الزّهري (أحد كبار الأئمة التابعين) كان يقول: «عَمِلَ معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخْرِم منها شيئاً»[14]. و كان عبد الله بن عباس t يفضِّله على عبد الله بن الزبير t و يقول: «ما رأيت رجلا كان أخلقَ للملك من معاوية، إن كان الناس ليرِدون منه على وادي الرَّحبِ، و لم يكن كالضيّقِ الحصيصِ الضَّجِرِ المُتغضِّب (يقصد بن الزبير)»[15]. و قال سعد بن أبي وقاص t: «ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب، يعني معاوية»[16]. و قال قبيصة بن جابر: «ألا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلاً أفقه فقهاً و لا أحسن مدارسة منه، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلاً أعطى للجزيل من غير مسألة منه، ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أحب رفيقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه»[17]. و كان العلامة المؤرخ إبن خلدون يقول: «إنَّ دولة معاوية و أخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين و أخبارهم، فهو تاليهم في الفضل و العدالة و الصحبة».

و لا يفهم من هذا تفضيل معاوية t على كل الصحابة في عصره، بل هو نفسه ينف ذلك. فهو يقول: «إني لست بخيركم. من هو خير مني: ابن عمر و عبد الله ابن عمرو و غيرهم. و لكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم، و أنعمكم لكم ولاية، و أحسنكم خلقاً»[18]. و لذلك من شروط الخليفة أن يكون الأقدر على الحكم، لأن الغاية الشرعية من الحاكم في الإسلام هو القدرة على تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية و إحقاق العدل بين العباد و إحلال الأمن على الرعية. و ليس الأتقى بالضرورة هو الأقدر على الحكم فقد يكون فيه ضعف أو غفلة، فيعجز عن إخماد الفتن. و هذا هو مذهب الجمهور. و قد تولّى الحسن t الخلافة من قبله و في الناس سعد بن أبي وقاص t و هو بدريٌّ و من العشرة المبشرين بالجنة، أي أنه كان أحسن من الحسن باتفاق العلماء، و لم يختلف أحدٌ على صحّة خلافته.

قال معاوية: «إن رسول الله r كان معصوماً فولاني و أدخلني في أمره. ثم استُخلف أبو بكر t فولاني. ثم استُخلف عمر فولاني. ثم استخلف عثمان فولاني. فلم ألِ لأحدٍ منهم ولم إلا و هو راضٍ عني. و إنما طـَلب رسول الله r للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين و الغناء، و لم يطلب لها أهل الاجتهاد و الجهل بها و الضعف عنها»[19].

و في الصحيح عن الصحابي الجليل أبي ذر t، قال قلت: «يا رسول الله، ألا تستعملني؟». فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر. إنك ضعيف. و إنها أمانة. و إنها يوم القيامة خِزيٌ و ندامة، إلا من أخذها بحقها و أدّى الذي عليه فيها»[20]. قال الإمام النوَوي في شرح ذلك: «هذا أصلٌ عظيمٌ في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعفٌ عن القيام بوظائف تلك الولاية. و أما الخِزي و النّدامة فهو في حقِّ من لم يكن أهلاً لها أو كان أهلاً و لم يعدِل فيها، فيخزيه الله تعالى يوم القيامة و يفضحه و يندم على ما فرّط. و أما من كان أهلاً للولاية وعدَل فيها، فله فضلٌ عظيمٌ تظاهرت به»[21]. و قد استعمل الرسول r أبا سفيان t على نجران و مات r و هو والٍ عليها، فدلّ هذا أن الولاية يأخذها الأقدر عليها.

ثمَّ إنَّ العصرَ قد تغيَّرَ و صرنا في الجيلِ الثاني. و قد سبَقَ و رأينا أنَّ النَّاس في الجِّيلِ الأوَّلِ قد كان فيهم مِنَ الوَرَعِ ما يدفعُهُم لطاعةِ الإمامِ حتى لَو لَمْ تكُن لهُ عُصبةٌ تدفعُ عنه. بل كانتِ العصبَّيةَ الإسلاميةَ هيَ الطَّاغية على المجتمعِ آنذاك. و مع ذلكَ فقدِ استغلَّ بعضُ الفجَّار مِن أتباعِ بنِ سبأ اليهودي تساهُلَ عثمانَ t و تورّعه عنِ الحزمِ معهم، فكانت الفتنةُ العظيمة التي أدَّت لمقتله و ما تزال آثارها في افتراقِ المسلمين حتى يومِنا هذا. فذاكَ كان أيَّامَ الصحابة و النَّاس كانو في الجِّيلِ الأوَّلِ فما بالُكَ بالجِّيلِ الثاني، و قد ضعُفَتْ العصبيَّةُ الدِّينيَّة و قويت العصَبيَّةُ القبليَّة؟ لا ريب أنَّ ذلك مِمَّا يحتِّمُ على الحاكِمِ أن يكونَ حازماً لكن دونَ أن يكونَ ظالماً. و لذلكَ نجِدُ أنَّ معاويةَ قد حَكَمَ الشامَ عشرين سنةَ ولايةَ و عشرينَ سنةً خلافةً، فما خرج منها فتنةٌ واحدة. حتى صارَ معاوية مضرِبَ المَثَلِ في حُسْنِ التَّدبيرِ و السـِّياسة. و قد عبّر عن سياسته بمقولته الشهيرة: «إنّي لا أضع سَيفي حيث يكفيني سوطي، و لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني. و لو أنّ بيني و بين الناس شَعْرة ما انقطعت». فقيل له: «و كيف ذلك»؟ قال: «كنت إذا مدّوها أرخيتها، و إذا أرخوها مددتها». و قيل: «الدُّهاة أربعة: معاوية بن أبي سفيان t للرَويَّة، و عَمْر بن العاص t للبديهة، و المغيرة بن شُعْبة للمُعْضِلات، و زياد بن أبي سفيان لكلّ صغيرةٍ و كبيرة»[22].

و قد أشرنا إلى اختلاف البيئة و تأثره في أنظمة الحكم. بل إن معاوية نفسه ذكر ذلك لعمر لما قدم الشام و تلقاه معاوية في موكب عظيم، فاستنكر عمر t ذلك، و اعتذر له معاوية t بقوله: «إنّا بأرضٍ جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر عزَّ السلطان ما يكون فيه عزٌّ للإسلام و أهله، و نرهبهم به». فقال عبد الرحمن بن عوف t لعمر: «ما أحسن ما صدر عمّا أوردته فيه يا أمير المؤمنين». فقال عمر: «من أجل ذلك جشّمناه ما جشمناه»[23].

و لذلك قال شيخ الإسلام إبن تيمية: «و لم يتولّ أحدٌ من الملوك خيراً من معاوية. فهو خير ملوك الإسلام، و سيرته خيرٌ من سيرة سائر الملوك بعده»[24]. قلتُ: و لا كان الناس في زمن ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية.

 



 [1] أخرجه الترمذي و صحّحه برقم (3682).

[2]  سير أعلام النبلاء (3\132).

[3]  البداية و النهاية لابن كثير (8\138).

[4]  البداية و النهاية لابن كثير (8\131).

[5]  كتاب الزهد (ص172).

[6]  البداية و النهاية (8/134).

 [7] صحيح الأدب المفرد.

[8]  انظر حاشية محب الدين الخطيب على العواصم من القواصم (ص217).

[9]  منهاج السنة (185:3) والمنتقى منه (ص389).

[10]  البداية و النهاية (8\205).

[11]  أحد كبار الأئمة و من أصحاب الإمام أبي حنيفة.

[12]  وفيات الأعيان، لابن خلكان (3/33)، و بلفظ قريب منه عند الآجري في كتابه الشريعة (5/2466).

[13]  كتاب الشريعة للآجري (5/2466-2467) شرح السنة لللالكائي، برقم (2785). بسند صحيح.

[14]  السنة للخلال (2\444). إسناده صحيح.

[15]  السنة للخلال (2\440). و أيضاً سير أعلام النبلاء (3\153). و رواه عبد الرزاق في المصنف (برقم 20985) بسند صحيح.

 [16] البداية (8\136).

 [17] تاريخ الطبري (3\269).

[18]  سير أعلام النبلاء (3\150).

[19]  تاريخ الطبري (2\636).

[20]  صحيح مسلم (3\1457) – باب كراهة الإمارة بغير ضرورة.

[21]  شرح النووي على صحيح مسلم (12\210).

[22]  العقد الفريد \ اليتيمة الثانية.

[23]  البداية و النهاية (8\124).

[24]  منهاج السنة النبوية (7\453).