العصبية و أعمار الأُمم

إعلم أن الدولة لها عمر طبيعي كما للأشخاص و هو عمر ثابت معروف إذ أن الدولة لا تعدو في الغالب أعمار ثلاثة أجيال. و الجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين سنة الذي هو انتهاء النمو و النشوء، كما قال الله تعالى: ]و وصَّينا الإنسان بوالدَيه إحساناً، حَمَلتهُ أمهُ كُرهاً و وَضعَتهُ كُرهاً، و حملُهُ و فِصالُهُ ثلاثون شهراً. حتى إذا بلغ أَشُدَّهُ وبلغ أربَعين سنة...[ (الأحقاف:15)، و لنا في قصة تيه اليهود دليلاً قاطعاً على ذلك. إذ أنه لما تقاعس اليهود عن الجهاد، حَرّم الله فلسطين عليهم، و جعلهم يتيهون في صحاري سيناء أربعين سنة، ليفنى الجيل القديم و ينشئ جيل جديد قادر على الجهاد: ]قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين[ (المائدة:26). و هنا فإن الله تعالى أكد على الأربعين سنة، و لم يكن ليذكر في كتابه الحكيم كلمةً أو رقماً بغير معنى، تعالى الله عن هذا. و قال أيضاً: ]و تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا و جعلنا لمهلكهم موعداً[ (الكهف:59). و قال: ]و إن من قريةٍ إلا نحن مُهْلِكُوهَا قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً. كان ذلك في الكتاب مَسطوراً[ (الإسراء:58). فالله جعل لكل أمة عمراً و أجلاً في كتابٍ عنده، لا يمكن لأي قوة تغيير ذلك. قال الله تعالى: ]ما تَسبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلها و ما يَستَأخِرون[ (الحجر:5 و المؤمنون:43). وقال جلّ شأنه: ]قُل لا أملِكُ لِنَفسي ضَرّاً و لا نفعاً إِلا ما شاء الله. لكلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إذا جاء أَجَلُهُمْ فلا يَستأخِرونَ ساعةً و لا يَستَقدِمونَ[ (يونس:49). وقال كذلك: ]و لو يُؤاخِذُ اللهُ الناسَ بِظُلْمِهِم ما تَرَكَ عليها من دابَّةٍ، و لكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمّىً. فإذا جاءَ أجَلُهُمْ لا يَستَأخِرونَ ساعةً وَلا يَستَقدِمونَ[ (النحل:61). و أما الثلاثة أجيال فتفصيلها كما يلي:

1ـ الجيل الأول

هنا تكون العصبية في أشد قوتها –و العصبية هي تفضيل الفرد مصلحة الجماعة على مصلحته و بذل النفس و المال في ذلك–. و يكون الناس معتادين على الخشونة والقوة و متحلّين بالعمل و النشاط و مشتركين بالمجد و الرئاسة و الحُكم. فينهضون بالدولة و ينمو الاقتصاد و يفيض المال و تتوسع حدود الدولة و تكون قوية عزيزة مرهوبة الجانب.

2ـ الجيل الثاني

يبدأ الترف، فيميل الناس إلى الاستكانة و الدعة، و تضعف العصبية و تنكسر سورتها. و لا يسع الناس أن يدعو كل ما شاهدو عليه آبائهم من العصبية و الخشونة، فيبقى لهم بعض الهيبة مما ورثوه من آبائهم.

3ـ الجيل الثالث

و هؤلاء يبلغ بهم الترف و الدعة و الإسراف حداً ينسيهم العصبية و الخشونة و يستبد بهم الجبن و الضعف و الكسل و يميل حاكمهم للاستبداد بهم و يعتادون على الذل و الاستكانة، فتضعف الدولة من الداخل. و يستبد بهم الفسق و الفساد و التبذير. و يشتغلون بجمع المال و إسـرافه. و تزداد بهم الروح الفردية. و يتمسكون بالأبّهة و المظاهر، ليحموا بها أنفسهم. و يبدأ العجز الاقتصادي، و تهرم الدولة و تشيخ و تتفتت، حتى يأتي الله بأمره و يأذن بخراب الدولة كما سيأتي لاحقاً. و لا يكون خراب الدولة إلا بعد ظهور هذا الفساد حتى يجاهر الناس به علناً كما قال ربُّ العِزّة: ]و إذا أردنا أن نهلك قرية امرنا مُترفيها، ففسقو فيها، فحقّ عليها القول، فدمرناها تدميرا[.

السراء و الضراء و صحوة الموت:

إعلم أن الله لا ينزل عذابه بقوم حتى ينذرهم و يقيم عليهم الحجة كما قال و قوله الحق:

]و ما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء و الضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا و قالوا قد مس آباءنا الضراء و السراء، فأخذناهم بغتة و هم لا يشعرون[[1]، و قال أيضاً: ]و لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مُبْلِسُون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين[[2]. و اعلم أن الأمم لا يمكن أن تعود إلى الجيل الأول إلا بأن يذوقو العذاب الأليم: ]و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهُمُ الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلين أو يأتيَهُمُ العذابُ قُبُلاً [[3]. و لكن الأمة تبدو شديدة القوة قبل دمارها، و يتوهَّم شعبها أن الغلبة لهم، و هي عليهم. و لك في قصة فرعون و حرب قرطاجة مع روما و ما ظهر لألمانيا و اليابان في الحرب العالمية و ما حصل للعراق في حرب الخليج –كما سيمر لاحقاً– أمثلةً واضحةً على ذلك. و يسمى هذا الوهم صحوة الموت.

و يكون من ذلك كله أن عمر الدولة تقريباً مئة و عشرون عاماً لا تزيد إلا في حالات قليلة (حالة الحرب الأهلية)، فيكون بعدها الجيل الرابع.

4ـ الجيل الرابع

و هؤلاء هم أشقى الناس و أفسدهم، و هم الذين ينزل عليهم غضب الله، و يكون خراب الدولة على يدهم. و ذلك يكون بإحدى ثلاثة أمور:

1) الحرب الأهلية

قد يحدث بعد الجيل الثالث أن يرى الحاكم ضعف أمته و ترفهم، فيستعمل جيشاً من الموالي أو المرتزقة ممن اعتادوا الخشونة، أو أن يستعمل في الحرب أسلحة مطورة تغني عن الشجاعة الفردية أو الالتحام البري (و هذا خاصٌّ بعصرنا)، فيُكسب الدولة عمراً جديداً قصيراً نسبياً (حوالي 15 سنة أو أكثر قليلاً) إلى أن تصل الروح الفردية بين الناس لدرجة تفكك المجمع و تقسمه، إلى أن يعادي الناس بعضهم بعضاً فتشتعل حرب أهلية تخرج الناس من ترفهم و كسلهم. و يجعل الله بأسهم بينهم، فيدمّرون ما قد بناه أجدادهم و يقتلون بعضهم بعضاً و يخربون دولتهم بأيديهم. و ربما تجتاح دول أجنبية أجزاء من أراضيهم فلا تجد من يقاومها.

تستمر الحرب الأهلية لفترة تقارب الفترة التي عاشتها الأمة زيادة عن عمرها يعتاد الناس خلالها على التقشف و العمل. ثم تهدأ الحرب بانتصار إحدى فئات المجتمع (الأفقر و الأقل نصيباً في المجتمع) أو تنتهي بتجزئة الدولة، ثم تمر الدولة بفترة هدوء (13–15) سنة تلتئم خلالها الجروح و يرى الناس خطأ أفكارهم و معتقداتهم و ما جرتهم إليه الروح الفردية فينبذون الفرقة و التباغض بينهم تدريجياً، إلى أن يفنى الجيل الرابع و يخرج جيل جديد اعتاد على الخشونة و النشاط و ابتعد عن اللهو و الترف. و هؤلاء يكوّنون الجيل الأول، و يُعيدون بناء الدولة. و الله مبدّل الليل النهار، و الله على كل شيء قدير.

2) الحرب المدمرة

تدخل الدولة في حرب مع دولة قوية أخرى. و مع أنها أحياناً تبدو الأقوى، إلا أنه لا تلبث أن تلحق بها هزيمة نكراء بسبب ترف أهلها و تقاعسهم في الدفاع عن وطنهم و اعتيادهم على ذلّ الاستكانة. هذه الحرب قد تعيد الناس إلى الجيل الأول إذا توفرت لها الشروط التالية:

1)   حربٌ مدمِّرةٌ تدمر إمكانيات البلاد و تهدم بيوتها و تدك مصانعها و تحرق مزارعها.

2)   خسارة فادحة في الحرب يكون لها أثر معنوي عميق في نفوس الناس.

3)   حصار و عزلة عن العالم الخارجي يدوم 13 سنة.

4)   مجاعة قاتلة تنجم عن تدمير البلاد و عزلتها.

5)   احتلال و لو جزء صغير من البلاد و وقوعه تحت السيطرة الأجنبية.

و في هذه الظروف الشديدة يشعر الناس بكراهية لكل ما هو أجنبي و بمحبة لكل ما و هو وطني و يبدءون شيئاً فشيئاً بالتضامن و تبدأ العصبية تسري في عروقهم. و يرون بطلان مذاهبهم و لهوهم، فيعودون إلى تقاليدهم، و تنتعش الروح الدينية. و يجبرهم دمار بلادهم و قسوة المجاعة و الحصار، على العودة إلى الخشونة و نبذ الترف. و يدفعهم انتهاك الأجنبي لسيادة وطنهم و احتلاله جزء من أراضيهم، إلى بذل النفس في سبيل استعادة الوطن كرامته. و تؤدي العزلة و الهزيمة إلى بذل النفس في سبيل استعادة الوطن لكرامته و إلى الاعتماد على الذات. ثم يبدأ الناس بإعمار بلادهم و تحقيق الاكتفاء الذاتي إلى أن تمر فترة الـ13 سنة و تصل الدولة إلى مرحلة تنتج كل ما تحتاجه. و يصل الناس بأخلاقهم إلى الجيل الأول. و هنا تعود الدولة فتبدأ من جديد فتحرر أراضيها و ينتعش اقتصادها و تهزم أعدائها في فترة 10 سنين. و الله يخلق ما يشاء.

3) الحكم الاستبدادي

و هو أشد أنواع العذاب. و يكون أن تصل الأمة بعد الجيل الثالث إلى مرحلة من الضعف و الذل و الاستكانة و الترف فلا يستطيعون أن يقاتلون أو يقاومون أبداً. فيأتي شخص و يستبدّ بالحُكم فلا يجد من يقاومه. و غالباً يكون الحاكم من فئة مستضعفة أو مغلوبة أو فقيرة، فلا يكون الترف قد أخذ كل عصبية هذه الفئة. فتقوى و تستولي على الدولة كلها و لا تجد من يقاومها. و خلال هذه الفترة الطويلة، يهمَلُ العِلمُ و ينتشر الفقر و يزيد الجهل و تتوقف الصناعات و يتراجع الاقتصاد. و ربما تَرَافَقَ هذا بهزائم عسكرية تزيد الوضع سوءاً. إلى أن يهلك اللهُ هذا الجيل، و ينشأ الجيل الجديد في ظلٍّ من الخشونة و يمتلئ بالعصبية و القوة. و تكون الفئة الحاكمة قد أخذها الترف و أذهب عصبيتها، فيثور الناس عليهم و يطيحون بحُكْمهم، و يعودون للجيل الأول. و الله وارث الأرض و من عليها.

 



[1]  (الأعراف: 94-95).

[2]  (الأنعام: 42-45).

[3]  (الكهف: 55).